فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)}
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} أي إبعادي عن الرحمة، وفي الحجر {اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35] فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضًا عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضًا من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته {إلى يَوْمِ الدين} يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم، لكن لا على أنها تنقطع يومئذٍ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] وقوله تعالى: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25].

.تفسير الآية رقم (79):

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)}
{قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي أمهلني وأخرني، والفاء متعلقة حذوف ينسحب عليه الكلام كأنه قال: إذا جعلتني رجيمًا فامهلني ولا تمتني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفًا بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال، ويمكن أن يكون قد عرفه عقلًا حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لابد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء.

.تفسير الآية رقم (80):

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)}
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالانظار المقدر لهم أزلًا لا إنشاءً لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبًا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلًا حسا تقتضيه حكمة التكوين.

.تفسير الآية رقم (81):

{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)}
{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول فالفاء ليست لربط نفس لإنظار بالاستنظار بل لربط الاخبار المؤكد به كما في قوله تعالى: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وقول الشافعي: فإن ترحم فأنت لذلك أهل...

.تفسير الآية رقم (82):

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)}
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} قسم بسلطان الله عز وجل وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار أي فاقسم بعزتك {لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم.

.تفسير الآية رقم (83):

{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)}
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية. وقرئ {المخلصين} على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى.

.تفسير الآية رقم (84):

{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)}
{قَالَ} أي الله عز وجل: {فالحق والحق أَقُولُ} برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق، والفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي.

.تفسير الآية رقم (85):

{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}
{لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ} على أن الحق إما اسمه تعالى أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به، ورجح بحديث إعادة الاسم معرفة أو فأنا الحق أو فقولي الحق، وقوله تعالى: {لاَمْلاَنَّ} إلخ حينئذٍ جواب لقسم محذوف أي والله لأملأن إلخ، وقوله تعالى: {والحق أَقُولُ} على تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعني فقولي الحق.
وقول: {فالحق} مبتدأ خبره {لاَمْلاَنَّ} مبتدأ خبره {لاَمْلاَنَّ} لأن المعنى أن أملأ ليس بشيء أصلًا. وقرأ الجمهور {فالحق والحق} بنصبهما وخرج على أن الثاني مفعول مقدم كما تقدم والأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كما في بيت الكتاب:
إن عليك الله أن تبايعا ** تؤخذ كرهًا أو تجيء طائعًا

وقولك: الله لأفعلن وجوابه {لاَمْلاَنَّ} وما بينهما اعتراض وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق و{لاَمْلاَنَّ} جواب قسم محذوف، وقال الفراء: هو على معنى قولك حقًا لآتينك ووجود أل وطرحها سواء أي لأملأن جهنم حقًا فهو عنده نصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ولا يخفى أن هذا المصدر لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة وأنه مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدان جمودًا محضًا. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ يكون ضميرًا نحو هو زيد معروفًا وهو الحق بينا وأنا الأمير مفتخرًا ويكون ظاهرًا نحو زيد أبوك عطوفًا وأخوك زيد معروفًا اه فكأن الفراء لا يشترط في ذلك ما يشترطون.
وقرأ ابن عباس. ومجاهد. والأعمش بالرفع فيهما، وخرج رفع الأول على ما مر ورفع الثاني على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر {وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] وقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ** علي ذنبًا كله لم أصنع

برفع كل ليتأتى السلب الكلي المقصود للشاعر، وقرأ الحسن. وعيسى. وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر بجرهما، وخرج على أن الأول: مجرور بواو القسم محذوفة أي فوالحق، والثاني: مجرور بالعطف عليه كما تقول: والله والله لأقومن، و{أَقُولُ} اعتراض بين القسم وجوابه، وجعله الزمخشري مفعولًا مقدمًا لأقول والجر على حكاية لفظ المقسم به قال: ومعناه التوكيد والتشديد وإفادته ذلك زيادة على ما يفيده أصل الاعتراض لأن العدول عما يقتضيه من الإعراب إلى الحكاية لما كان لاستبقاء الصورة الأولى دل على أنها من العناية في شأنها كان وهذا جار في كل حكاية من دون فعل قول وما يقوم مقامه فيدل فيما نحن فيه على فضل عناية بشأن القسم ويفيد التشديد والتوكيد.
وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية {مِنكَ} أي من جنسك من الشياطين {وَمِمَّن تَبِعَكَ} في الغواية والضلالة {مِنْهُمْ} من ذرية آدم عليه السلام {أَجْمَعِينَ} توكيد للضمير في {مِنكَ} والضمير المجرور بمن الثانية، والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدًا أو توكيد للتابعين فحسب والمعنى لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم، وتأكيد التابعين دون المتبوعين لما أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الأنبياء فما بال المتبوعين. وقال صاحب الكشف: صاحب هذا القول اعتبر القرب وأن الكلام بين الحق تعالى شأنه وبين الملعون في شأن التابعين فأكد ما هو المقصود وترك توكيد الآخر للاكتفاء. هذا واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون فيها في موضعين مثلًا لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظًا رعاية للتفنن، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلًا: إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة {ص} بقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عز وجل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة [الأعراف: 16] بقوله تعالى: {قَالَ فَا أَغْوَيْتَنِى} وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله: {أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] ومن قوله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ المنظرين} [الأعراف: 15] في الأعراف مع ذكرها فيهما في {ص} والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعي وقد لا تراعي حسب اقتضاء المقام، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعي عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلًا حيث أن مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع.

.تفسير الآية رقم (86):

{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}
{قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل {مِنْ أَجْرٍ} أي أجرًا دنيويًا جل أو قل {وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين} من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعًا ولا مدعيًا ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للاستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة والسلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف.
وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: هم الرحماء بينهم قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم، وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: أيها الناس من علم منكم علمًا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين}.

.تفسير الآية رقم (87):

{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)}
{إِنْ هُوَ} أي ما هو أي القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} جليل الشأن من الله تعالى: {للعالمين} للثقلين كافة.

.تفسير الآية رقم (88):

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق {بَعْدَ حِينِ} قال ابن عباس. وعكرمة. وابن زيد: يعني يوم القيامة، وقال قتادة. والفراء. والزجاج: بعد الموت، وكان الحسن يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا، والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي، وأيًا ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى.
هذا ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات: قالوا في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 18، 19] إنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عز وجل، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجًا عنها من جنسها، وقال: ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها. وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول: إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان.
وقيل: في قوله تعالى: {وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [ص: 24] إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل جدًا بالنسبة إلى الآخرين {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26] نقل الشعراني أن خلافته عليه السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقامًا معلومًا عينه له ربه سبحانه، وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفة وهو كفر صراح، وفرق العلماء بين الخليفة والملك.
أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال: حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة. والزبير. وكعبًا. وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة. والزبير: ما ندري فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب: ما كنت أحسب أحدًا يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى: {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} [ص: 26] كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى، وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام.
وقوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بالسوق والاعناق} [ص: 33] فيه إشارة بناءً على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفى لا إله إلا الله وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه وما قيل فيه قال: {رَبّ اغفر لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} [ص: 35] لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه عز وجل وليس فيه ما يخل بكماله عليه السلام وإلا لعوتب عليه، وقد تقدم الكلام في ذلك ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلًا عن الخواص قال: بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام قالت: يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه فأعطاها الأمان فأسرت إليه في أذنه وقالت: إني أشم من قولك: {هَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} [ص: 35] رائحة الحسد فتغير سليمان واغبر لونه ثم قالت له: قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه، منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به، ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعدك فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطى أحدًا بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص، ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول هب لي وغاب عنك أنك عبد له لا يصح أن تملك معه شيئًا مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له، وكفى بذلك جهلًا ثم قالت له: يا سليمان وماذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه فقال: خاتمي قالت: اف الملك يحويه خاتم انتهى، ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضًا لا تخفى على الخواص والعجب من أنها خفيت على الخواص، وقوله تعالى: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75] يشير إلى فضل آدم عليه السلام وأنه أكمل المظاهر، واليدان عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال: الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يقال أيما أفضل الياقوت أم الحلة؟ ثم قال: والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الإخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك هو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع.
أرواح تدبر أجسادًا نورية وهم الملأ الأعلى. وأرواح تدبر أجسادًا نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجسادًا ترابية وهم البشر، فالأرواح جميعها ملائكة حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقًا قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل، ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام ثم إن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم.