فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (80):

{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}
{وَلَكُمْ فيِهَا منافع} أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود ويقال: إنه في معنى ولتنتفعوا نافع فيها أو نحو ذلك {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي أمرًا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد، وهذا عطف على {لتركبوا منها} [غافر: 79] جاء على نمطه، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في النظم الجليل لنكتة.
قال صاحب الكشف: إن الأنعام هاهنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيهًا على أنه أيضًا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرًا عنهما، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر، وقال صاحب الفرائد: إنما قيل {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فيِهَا منافع} ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجيء فيهما بما يدل على الاستقبال. وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق.
وقال القاضي: تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة، وقيل في توجيهه: يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار للتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان. ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فيِهَا منافع} لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى. وقال الزمخشري: إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جيء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم. وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضًا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم، ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67] نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجهًا إن تم.
وقيل: تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك. وأما قوله تعالى: {وَلَكُمْ فيِهَا منافع} فكالتابع للأكل فأجرى مجراه وهو كما ترى، وقوله تعالى: {وَعَلَيْهَا} توطئة لقوله سبحانه: {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل: وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار.
وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب، وتقديم الجار قيل: لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل.
وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام؛ وقيل: {عَلَى الفلك} دون في الفلك كما في قوله تعالى: {احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين، والمرجح لعلى هنا المشاكلة.
وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكن لا على أن كلًا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضًا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف.
ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام مقام امتنان وهو مقتض للتعميم، والظاهر ذاك، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] كما يشعر به السياق، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}
{وَيُرِيكُمْ ءاياته} أي دلائله الدالة على كمال شؤونه جل جلاله {فَأَىُّ ءايات الله} أي فأي آية من تلك الآيات الباهرة {تُنكِرُونَ} فإن كلًا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها من له عقل في الجملة، فأي للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة ** ترى حبهم عارًا علي وتحسب

قال الزمخشري: لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلومًا له.

.تفسير الآية رقم (82):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرأيين: {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَارًا فِي الأرض} إلخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار هاهنا {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} {مَا} الأولى: نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى، والثانية: موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضًا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم.

.تفسير الآية رقم (83):

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)}
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك {فَرِحُواْ بما عِندَهُمْ مّنَ العلم} ذكر فيه ستة أوجه. الأول: أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى: {بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِي الاخرة} [النمل: 66].
والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم السلام ويدفعون به البينات. الثاني: أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم السلام إلى ما عندهم من ذلك. وعن سقراط أنه سمع وسى عليه الصلاة والسلام، وقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا. والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحًا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال: إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. الثالث: أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علمًا لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم، وضمير {فَرِحُواْ} و{عِندَهُمُ} على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم.
الرابع: أن يجعل ضمير {فَرِحُواْ} للكفرة وضمير {عِندَهُمُ} للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤا بالبينات وا جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ}.
الخامس: أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي السادس: أن يجعل الضميران للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون} [الروم: 7] {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} [النجم: 30] فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدًا.
وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطًا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و{فَرِحُواْ بما عِندَهُمْ مّنَ العلم} على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة.

.تفسير الآية رقم (84):

{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)}
{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شدة عذابنا ومنه قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] {قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة:

.تفسير الآية رقم (85):

{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، و{أيمانهم} رفع بيك اسمًا لها أو فاعل {يَنفَعُهُمْ} وفي {يَكُ} ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وههنا أربعة فاءات فاء {فَمَا أغنى} [غافر: 82] وفاء {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ} [غافر: 83] وفاء {فَلَمَّا رَأَوْاْ} وفاء {فَلَمْ يَكُ} فالفاء الأولى: مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية: تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِم} [غافر: 83] إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ} إيماءً بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالثة: للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعًا لما قبلها واقعًا عقيبه {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} مترتب على قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ} إلخ تابع له لأنه نزلة فكفروا إلا أن {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ} الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار {سُنَّتُ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة كـ {وعد} [النساء: 122] الله {وصبغة الله} [البقرة: 138] وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفًا، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر.
وعن بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضًا ومعنى {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أن نفس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في بعض الآيات: على ما أشار إليه بعض السادات {حم} [غافر: 1] إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضًا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عز وجل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشار المدعو ما فيه.
{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} [غافر: 7] إلخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض؛ وفي ذلك أيضًا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز وجل ما لا يخفى {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [غافر: 14] بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [غافر: 15] قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: {يَوْمَ هُم بارزون} من قبور وجودهم {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْء لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] إذ ليس في الدار غيره ديار {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ} من التجلي {ا كَسَبَتْ} في بذل الوجود للمعبود {لاَ ظُلْمَ اليوم} [غافر: 17] فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك {. {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كاظمين} [غافر: 18] هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين وَمَا تُخْفِى الصدور} [غافر: 19] خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} دعائي وطلبي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} الحرمان والبعد مني {داخرين} [غافر: 60] ذليلين مهينين {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} [غافر: 61] فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم.
وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الإسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا} يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرًا للروح {والسماء} بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله، وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته» وفي ذلك إشارة إلى رد {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} [البقرة: 30] ولله تعالى من قال:
ما حطك الواشون عن رتبة ** عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا ** عليك عندي بالذي عابوا

والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرًا لصفات القهر من رب العالمين {وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين}، [الزخرف: 76] تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.