فصل: تفسير الآية رقم (247):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (247):

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحي {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} يدبر أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال. وطالوت فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري كداود ولذلك لم ينصرف، وقيل: إنه عربي من الطول وأصله طولوت كرهبوت ورحموت فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية العرب، وأما ادعاء العدل عن طويل، والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف. و{مَلَكًا} حال من {طَالُوتُ} أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن نبيهم لما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن إسحق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا تعالى قال له: أنظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلًا دباغًا يعمل الأدم، وقيل: كان سقاءًا وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قالت لطالوت: قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملك عليهم فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك.
{قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي، وموضعه نصب على الحال من الملك، ويكون يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له، و{علينا} حال من الملك أو الخبر {علينا} وله حال، ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقًا بها. و{عَلَيْنَا} حال {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال} الواو الأولى: حالية، والثانية: عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفًا من ذلك، وأصل سعة وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في يعد وإنما ارتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض، ولذا أجرى عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة.
{قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ} رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل: لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم، أما أولًا: فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح منكم، وأما ثانيًا: فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرًا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهما، وأما ثالثًا: فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعًا: فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عليم بما يليق بالملك من النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لاسيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل: إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالًا لكان أحق الخلق به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من الرجال، ولعل ذكر ذلك على ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنًا لأنهم كانوا ضخامًا ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلًا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحقق أن المرء بأصغريه لا بكر جسمه وطول برديه.
وفي اختيار واسع وعليم في الأخبار عنه تعالى هنا حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لاسيما على ما يتبادر من بسطة الجسم، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرًا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الأخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضًا، ولأنّ عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.

.تفسير الآية رقم (248):

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للاحق، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم: ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال: {إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورًا ليقع هذا جوابًا له صراحة أعاد الفاعل ليغار ما علم صراحة كونه جوابًا، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابًا له، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولًا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبهًا تامًا بالتعنت حينئذ وإن عد من باب السؤال لتقوية العلم، وهذا بناءًا على أن القوم كانوا مؤمنين، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيًا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعًا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال: يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضًا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيًا فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا: إن كنت صادقًا فابعث لنا ملكًا ثم جرى ما جرى فقال: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم قالوا إن كنت صادقًا فأتنا بآية أن هذا ملك فقال: ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرًا عن إنكار وعدم إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبًا للشارد وتقييدًا للوارد وليزداد الذين آمنوا هدى.
والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرئ {تابوه} بالهاء، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش، وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد، وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ على ما اختاره الزمخشري فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير، وأما جعل الهاء بدلًا من التاء لاجتماعهما في الهمس وأنهما من حروف الزيادة فضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت؛ وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاءًا، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم، واختلف في تحقيق ذلك فقال أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم، وكان من عود الشمشاذ نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه ثم وثم إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى إن كل من أحدث عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطًا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت. وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان، وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذ اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة، ولم أر حديثًا صحيحًا مرفوعًا يعول عليه بفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرًا كذلك.
{فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة، وقيل: وليس بالصحيح كما قاله الراغب صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، والجملة في موضع الحال.
و من لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم.
{وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون} هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هرون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما {تَحْمِلُهُ الملائكة} حال من التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى مكة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وجيء به قبل تمام القصة إظهارًا لكمال العناية، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه {لآيَةً} عظيمة كائنة {لَكُمْ} دالة على جعل طالوت ملكًا عليكم أو على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات، و{ءانٍ} شرطية والجواب محذوف اعتمادًا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي عنى إذ.

.تفسير الآية رقم (249):

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبًا لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر كانفصل وقيل: فصل فصلًا وجوز كونه أصلًا برأسه ممتازًا من التعدي صدره كوقف وقوفًا ووقفه وقفًا وصد عنه صدودًا وصده صدًا وهو باب مشهور، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند، وفيه معنى الجمع، وروى أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناءًا لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا ابتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا، وكان الوقت قيظًا فسلكوا مفازة فسالوا نهرًا {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم} أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب {بِنَهَرٍ} بفتح الهاء، وقرئ بسكونها وهي لغة فيه وكان ذلك نهر فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن قتادة والربيع أنه نهر بين فلسطين والأردن {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة، وهذا كثيرًا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي: فمن شرب من مائه مطلقًا {فَلَيْسَ مِنّي} أي من أشياعي، أو ليس تصل بي ومتحد معي {فَمَنْ} اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين.
{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه، مأكولًا كان أو مشروبًا، حكاه الأزهري عن الليث، وذكر الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء عنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردًا

وأما استعماله عنى شربه واتخذه طعامًا فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد: أطعموني ماءًا فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه، وقيل فيه:
بل المنابر من خوف ومن وهل ** واستطعم الماء لما جد في الهرب

وألحن الناس كل الناس قاطبة ** وكان يولع بالتشديق بالخطب

لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك بل ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناءًا على أنه نبيء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد.
{إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} استثناءً من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعًا وإلا كان متصلًا، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيًا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن المغترف ليس بذائق حكمًا فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولاختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية فهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذٍ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلًا به متحدًا معه لأن التقدير والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني ولا يصح أيضًا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافًا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير والذين لم يذوقوه فإنهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي وليس بالمراد أصلًا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة {غرفة} بفتح الغين على أنها مصدر، وقيل: الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول، أو حذوف وقع صفة لها.
{فَشَرِبُواْ مِنْهُ} عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا، والمراد إما كرعوا وهو المتبادر وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو أفرطوا في الشرب {إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمُ} لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج عنه أيضًا أن من شرب لم يزدد إلا عطشًا، وفي رواية: إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش وكان ذلك من قبيل المعجزة لذلك النبي، وقرأ أبيّ والأعمش {إلا قليل} بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} في قوة أن يقال: فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعًا كما في قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحت أو مجلف

فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والاتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان

ولا يخفى ما فيه {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أي النهر وتخطاه {هُوَ} أي طالوت {والذين ءامَنُواْ} عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويهًا بشأنهم وإيماءًا إلى أن من عداهم عزل عن الإيمان {مَعَهُ} متعلق بجاوز لا بآمنوا وجوز أن يكون خبرًا عن {الذين} بناءًا على أن الواو للحال كأنه قيل: فلما جاوزه والحال إن الذين آمنوا كائنون معه.
{قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي لا قدرة لنا حاربتهم ومقاومتهم فضلًا عن الغلبة عليهم، وجالوت كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلثمائة ألف {قَالَ} على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني {الذين يَظُنُّونَ} أي يتيقنون {أَنَّهُم ملاقوا الله} بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانًا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير {قالوا} للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارًا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضًا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب معه.
{كَم مّن فِئَةٍ} أي قطعة من الناس وجماعة من فأوت رأسه إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول: فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني: فيئة فحذفت عينها فوزنها فله. و{كَمْ} هنا خبرية ومعناها كثير، و{مِنْ} زائدة، و{فِئَةٌ} تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون {مّن فِئَةٍ} في موضع رفع صفة لـ كم كما تقول عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم أن تكون {كَمْ} استفهامية ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضي أن من لا تدخل بعد {كم} الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى {قَلِيلَةٍ} نعت لفئة على لفظها {غُلِبَتِ} أي قهرت عند المحاربة {فِئَةٍ كَثِيرَةً} بالنسبة إليها.
{بِإِذُنِ الله} أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسا وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم، وإذا حمل التنوين في {فِئَةٌ} الأولى للتحقير، وفي فئة الثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله:
له حاجب عن كل أمر يشينه ** وليس له عن طالب العرف حاجب

وهذا كما ترى ناشئ من كمال إيمانهم بالله واليوم الآخر وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الأحياء فضلًا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لاسيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله مولانا مفتي الديار الرومية من أن هذا الجواب كما ترى ناشئ من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظنّ لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أنّ ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارًا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفًا ملائمًا له فإن الملائمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه عزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلًا للتشجيع وترغيبًا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداءً كلام من جهته تعالى جيء به تقريرًا لكلامهم ودعاءًا للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم.