فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (51):

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي ما صح لفرد من أفراد البشر.
{أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام. الأول: الوحي وهو المراد بقوله تعالى: {إِلاَّ وَحْيًا} وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهامًا وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روى عن مجاهد وليس بإلهام؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص:
وأوحى إلى الله أن قد تأمروا ** بابل أبي أوفى فقمت على رجلي

فإنه أراد قذف في قلبي. والثاني: إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه. والثالث: إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام،، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي ملكًا {فَيُوحِىَ} ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري {بِإِذْنِهِ} أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه: {مَا يَشَاء} أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبني المعتزل على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض: المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء، وقال القاضي إن قوله تعالى: {إِلاَّ وَحْيًا} معناه إلا كلامًا خفيًا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبًا من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روى في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال: وأما نحن فنقول والله تعالى أعم: إن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى.
ثم أنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيًا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك: ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلًا فيهم على نحو {ملائكته... وَجِبْرِيلُ} [البقرة: 98] وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلا المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة، وتقدير إلا وحيًا من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه: {أَوْ يُرْسِلَ} وهو عطف على قوله تعالى: {إِلاَّ وَحْيًا} مع كونه خلاف الظاهر.
وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلًا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونًا وجوديًا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود، والمقصود أن الذي يصح ذوقًا ونقلًا وعقلًا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليمًا، وأما الثالث: فلما كان تكليمًا مجازيًا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى.
وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرًا لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفى، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيًا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيًا مطلقًا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده: فيوحى بأنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة، أخرج البخاري.ومسلم. والترمذي عنها أنها قالت: «من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ}» وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيهيا التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كله عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر. وابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتمادًا على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن صاحب الكشف قدس سره، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة: فإذا لم يره جل وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلًا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحيًا إذا لوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليمًا في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام صاحب الكشف منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره، وبعضهم أجاب بأن العام مخصص بغير ما دليل وفي البحر قيل: «قالت قريش: ألا تلكم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيًا صادقًا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله عز وجل» فنزلت {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية» وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضًا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله صاحب الكشف قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس تيقن الثبوت، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض، ومعناه اللغوي يشمل ذلك، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني: الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي، وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً} [مريم: 11] فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضًا وحمل عليه قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية، و{وَحْيًا} على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالًا، و{مِن وَرَاء حِجَابٍ} ظرف واقع موقع الحال أيضًا كقوله تعالى: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] والتقدير وما صح أن يكلم أحدًا في حال من الأحوال إلا موحيًا أو مسمعًا من وراء حجاب أو مرسلًا. وتعقبه أبو حيان فقال: وقوع المصدر حالًا لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاءً تريد باكيًا، وقاس منه المبرد ما كان نوعًا للفعل نحو جاء زيد مشيًا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكًا الواقع موقع ضاحكًا.
وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال: يكتفي بقياس المبرد، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالًا، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضًا ألا تراهم فسروا {ءانٍ يَفْتَرِى} فترى، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالًا لكونها في معنى النكرة كوحدة، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا، واختار غير واحد إن وحيًا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلا كلام وحي و{مِن وَرَاء حِجَابٍ} صفة كلام أوسماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضًا بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر، وقال الزجاج: قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} بالنصب فقال: هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى: أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولًا وذلك غير جائز، والمعنى ما كان لبشر {أَن يُكَلّمَهُ الله} إلا بأن يوحي أو أن يرسل، وعليه أن يقدر في قوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع.
وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع. وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة {أَوْ مِن وَرَاء} بالجمع. وقرأ نافع. وأهل المدينة {حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ} برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على {وَحْيًا} أو على ما يتعلق به {مِن وَرَاء} بناءً على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب، وقال العلامة الثاني: إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلخ وليس بحسن الانتظام. وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناءً على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما يناسب حال إرسال الرسول، أو يقال: لا نسلم أن العطف على {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ليس بحسن الانتظام، وفيه دغدغة لا تخفى، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانًا فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي.
{إِنَّهُ عَلِىٌّ} متعال عن صفات المخلوقين {حَكِيمٌ} يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهامًا وإما خطابًا أو إما عيانًا وإما خطابًا من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية.