فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (52):

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}
{وكذلك} أي ومثل هذا الإيحاء البديع على أن الإشارة لما بعد {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} وهو ما أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أو القرآن الذي هو للقلوب نزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية، وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهور لغيرك أوحينا إليك، وقيل: أي ومثل ذلك الإيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد ألقى إليه في المنام كما ألقى إلى إبراهيم عليه السلام وألقى إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه السلام.
ففي الكبريت الأحمر للشعراني نقلًا عن الباب الثاني من الفتوحات المكية أنه صلى الله عليه وسلم أعطى القرآن مجملًا قبل جبريل عليه السلام من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عباس تفسير الروح بالنبوة.
وقال الربيع: هو جبريل عليه السلام، وعليه فأوحينا مضمن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.
ونقل الطبرسي عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصعد إلى السماء، وهذا القول في غاية الغرابة ولعله لا يصح عن هذين الإمامين، وتنوين {رُوحًا} للتعظيم أي روحًا عظيمًا {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الايمان} الظاهران أن ما الأولى نافية والثانية استفهامية في محل رفع على الابتداء و{الكتاب} خبر، والجملة في موضع نصب بتدري وجملة {مَا كُنتُ} إلخ حالية من ضمير {أَوْحَيْنَا} أو هي مستأنفة والمضي بالنسبة إلى زمان الوحي.
واستشكلت الآية بأن ظاهرها يستدعي عدم الاتصاف بالإيمان قبل الوحي ولا يصح ذلك لأن الأنبياء عليهم السلام جميعًا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر بإجماع من يعتد به، وأجيب بعدة أجوبة، الأول: أن الإيمان هنا ليس المراد به التصديق المجرد بل مجموع التصديق والإقرار والإعمال فإنه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعًا، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] والأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركب والمركب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه فلا يلزم من انتفاء الإيمان المركب بانتفاء الأعمال انتفاء الإيمان بالمعنى الآخر أعني التصديق وهو الذي أجمع العلماء على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة، ولذا عبر بتدري دون أن يقال: لم تكن مؤمنًا وهو جواب حسن ولا يلزمه نفي الإيمان عمن لا يعمل الطاعات ليكون القول به اعتزالًا كما لا يخفى.
الثاني: أن الإيمان إنما يعني به التصديق بالله تعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام دون التصديق بالله عز وجل ودون ما يدخل فيه الأعمال والنبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالإيمان برسالة نفسه كما أن أمته صلى الله عليه وسلم مخاطبون بذلك، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أنه رسول الله وما علم ذلك إلا بالوحي فإذا كان الإيمان هو التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن هذا المجموع ثابتًا قبل الوحي بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة المجمع على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة استقام نفي الإيمان قبل الوحي وإلى هذا ذهب ابن المنير. الثالث: أن المراد شرائع الإيمان ومعالمه مما لا طريق إليه إلا السمع وإليه ذهب محي السنة البغوي وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام ولم تتبين له عليه الصلاة والسلام شرائع دينه، ولا يخفى أنه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الإيمان على الأعمال وحدها وهو خلاف المعروف. الرابع: أن الكلام على تقدير مضاف فقيل التقدير دعوة الإيمان أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان وإليه يشير كلام أبي العالية.
وقال الحسين بن الفضل: أي أهل الإيمان أي لا تدري من الذي يؤمن، وأنت تدري أنه لا يرتضي هذا إلا من لا يدري. الخامس: المراد نفي دراية المجموع أي ما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب والإيمان فلا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم كان يدري الإيمان وحده ويأباه إعادة {لا} السادس: أن المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد وإليه ذهب علي بن عيسى وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد استمرار النفي إلى زمن الوحي، وظاهر كلام الكشف يميل إلى اعتبار نحو ذلك القيد قال: لعل الأشبه أن الإيمان على ظاهره والآية واردة في معرض الامتنان والإيحاء يشمل الإلقاء في الروع وإرسال الرسول فالإيمان عرفه بالأول والكتاب بالثاني على أن الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم عرفهما بعد أن لم يكن عارفًا وهو كذلك أما أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي فلا فجاز أن يعرفهما به وجاز أن يعرف واحدًا منهما معينًا به. وقد دل الدليل على أن المعرف به هو الكتاب والإيمان بعد العقل وقبل الوحي، والتمسك به على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدًا بشرع من قبله ضعيف لأن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصيرًا انتهى.
وأنت تعلم أن المتبادر أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي، وأما قوله قدس سره في تضعيف التمسك بذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدًا بشرع من قبله أن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد فقد قيل عليه: إنه ساقط لأنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يدر شرعًا فكيف يتعبد به، وقد يجاب بأن مراد المدقق أن الدراية المنفية الدراية عنى العلم الجازم الثابت المطابق للواقع وعدمها لا يلزمه عدم التعبد إذ يكفي في التعبد بشرع من قبله عليه الصلاة والسلام الظن الراجح ثبوته فلعله كان حاصلًا له صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا الظن يكفي للمتعبدين اليوم بشرع نبينًا عليه الصلاة والسلام فإن أكثر الفروع ظنية، ومن يتتبع الأخبار يعلم أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام من الحج والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وغير ذلك وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على اتباع دين إبراهيم عليه السلام. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان أي قبل البعثة يتحنث بغار حراء، وفسر التحنث بالتحنف أي اتباع الحنيفية وهي دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وفي رواية ابن هشام في السير يتحنف بالفاء بدل الثاء، نعم فسر أيضًا بالتعبد كما في صحيح البخاري وباتقاء الحنث أي الإثم كالتحرج والتأثم وكل ذلك مما ذكره الحافظ القسطلاني في شرح الصحيح.
ثم إن الظاهر أن من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا بشرع من قبله ليس مراده أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدًا بجميع شرع من قبله بل بما ترجح عنده صلى الله عليه وسلم ثبوته. والذي ينبغي أن يرجح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه السلام لأنه من ذريته عليهما الصلاة والسلام وقد كلفت العرب بدينه.
وقال بعضهم: إن عبادته صلى الله عليه وسلم التفكر والاعتبار، ولعله أيضًا مما ترجح عنده عليه الصلاة والسلام كونه من شريعته عليه السلام ورا يقال: بما علمه صلى الله عليه وسلم لا على ذلك الوجه من شرع من قبله أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحى إليه وأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بما يوحي إليه إلا أن الوحي السابق على البعثة كان إلقاءً ونفثًا في الروع وما عمل بما كان من شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا بواسطة ذلك الإلقاء وإذا كان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد أوتي الحكم صبيًا ابن سنتين أو ثلاث فهو عليه الصلاة والسلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النوع من الإيحاء صبيًا أيضًا.
ومن علم مقامه صلى الله عليه وسلم وصدق بأنه الحبيب الذي كان نبيًا وآدم بين الماء والطين لم يستبعد ذلك فتأمل.
{ولكن جعلناه} أي الروح الذي أوحيناه إليك، وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل: للإيمان ورجح بالقرب، وقيل: للكتاب والإيمان ووحد لأن مقصدهما واحد فهو نظير {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
{نُورًا} عظيمًا {نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء} هدايته {مّنْ عِبَادِنَا} وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به والجملة إما مستأنفة أو صفة {نُورًا} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى} تقرير لهدايته، وبيان لكيفيتها، ومفعول {لَتَهْدِى} محذوف ثقة بغاية الظهور أي وإنك لتهدي بذلك النور من تشاء هدايته {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام؛ وقرأ ابن السميقع {لَتَهْدِى} بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وقرأ حوشب {لَتَهْدِى} مبنيًا للمفعول أي ليهديك الله وقرئ لتدعو.

.تفسير الآية رقم (53):

{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
{صراط الله} بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى: {الذى لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلفًا وملكًا وتصرفًا مما يوجب ذلك أتم إيجاب.
{أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الامور} أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى، وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الاستقبال، وقال في البحر: المراد بها الاستمرار كما في زيد يعطي أي من شأنه ذلك، والأول أظهر والله تعالى أعلم.
ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات: قال سبحانه: {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده لأنه صلى الله عليه وسلم أول العالمين خلقًا ومنه عليه الصلاة والسلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذا كان آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ** فلي منه معنى شاهد بأبوتي

وقوله سبحانه: {وَمَنْ حَوْلَهَا} يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر صلى الله عليه وسلم كلا حسب استعداده، وقيل: في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11] إنه يشير إلى التنزيه والتشبيه، وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس سره بما يطول {لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} [الشورى: 12] أي مفاتيح سموات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عز وجل وأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والانس والرضا إلى غير ذلك، وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوع من آثار قهره كالنكرة والجحود والإنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك، وقد يجتمع في النفس خزائن، وفائدة الأخبار بأن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكار العباد عمن سواه سبحانه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13] يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتباه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك من يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد{والذين يُحَاجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} [الشورى: 16] يشير إلى الذين يحاجون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى: 21] يشير إلى كفار النفوس فإنهم شرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله تعالى من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى.
وروى السلمي عن سيد الطائفة قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذا ويخرج من الدنيا بالإيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذا لطف اللطيف بالعبد الضعيف {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح {فِى روضات الجنات} في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة والآخرة في روضات الجنة {لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ عِندَ رَبّهِمْ} [الشورى: 22] حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] وهم أقاربه صلى الله عليه وسلم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالى عنهم أبوابه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدنية العلم وعلي بابها» رمز إلى ذلك فافهم الإشارة {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدًا للتوبة قبلها جودًا وكرمًا وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ: إن تبت فهل يقبلني الله تعالى؟ فقال: إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} [الشورى: 26] إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤية مما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضلًا ربانيًا، وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم {استجيبوا لِرَبّكُمْ} [الشورى: 47] الاستجابة للعوام بالوفاء بعهده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عز وجل، وللخواص بالاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها، ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالإعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال {يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا} [الشورى: 49، 50] قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريدين فمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له في غيره بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيمًا لا مريد له أصلًا{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَن يَشَآء *إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] قال سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة: اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد، والبشر ما سمي بشرًا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة الروح فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصدور ولولا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلابد إذا خاطب عبدًا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه السلام صعقًا إذ لم يكن له استعداد يقبل به التجلي اللائق قامه وثبت نبينا صلى الله عليه وسلم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدًا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وإن سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام، وقد ورد في المتهجدين أنهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علمًا بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادرًا عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي المسمى وحيًا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلامًا يستفيد به العلم من جاء له.
واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلًا ولا يأمر بأمر إلهي قطعًا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلى العبد من غير واسطة ويكون أيضًا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلابد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهرًا بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعملون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم، ولا يكون الإلهام إلا في الخير و{ألهمها فجورها} [الشمس: 8] فجورها على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما أن إلهامها تقواها لتعمل بها، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم، وأما قوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا عرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب.
وأما قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشرى إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علمًا وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي، ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجدًا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عز وجل لا غير، وقد يقول الولي: حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك، وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} وهو ما به الحياة الطيبة الأبدية {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} قبل الإيحاء.
قيل: أشير بهذا الإيحاء إلى الإيحاء في هذه النشأة وكان له صلى الله عليه وسلم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة والسلام في كينونته قبل إخراجه منها بتجلي كينونته عز وجل وإلا فهو صلى الله عليه وسلم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون إيحاء {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الامور} [الشورى: 53] تمت السورة بتوفيق الله عز وجل والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأزل وبها والحمد لله تعالى.