فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
{وَأَنَّهُ} أي عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ} أي أنه بنزوله شرط من أشراطها وبحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأيًا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة.
وقرأ أبي {لِذِكْرِ} وهو مجاز كذلك.
وقرأ ابن عباس. وأبو هريرة. وأبو مالك الغفاري. وزيد بن علي. وقتادة. ومجاهد. والضحاك. ومالك بن دينار. والأعمش. والكلبي قال ابن عطية. وأبو نصرة {لَعِلْمٌ} بفتح العين واللام أي لعلامة.
وقرأ عكرمة. قال ابن خالويه. وأبو نصرة {لا لَعِلْمٌ} معرفًا بفتحتين والحصر إضافي، وقيل: باعتبار أنه أعظم العلامات، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام فقد أخرج البخاري. ومسلم. والترمذي. وأبو داود. وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لينزلن ابن مريم حكمًا عدلًا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد»، وفي رواية «وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام» وفيه «ويهلك المسيح الدجال» وفي أخرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وفي رواية «فأمكم منكم» قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قال: تخبرني قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول: إنما أقيمت لك.
وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعًا لتوهم نزوله ناسخًا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني، وعن الحسن. وقتادة. وابن جبير أن ضمير {أَنَّهُ} للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضًا، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق، وقالت فرقة: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام:
«بعثت أنا والساعة كهاتين» وفيه من البعد ما فيه.
وكأن هؤلاء يجعلون ضمير {أم هو} [الزخرف: 58] وضمير {إِنْ هُوَ} [الزخرف: 59] له صلى الله عليه وسلم أيضًا وهو كما ترى {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكن في وقوعها {واتبعون} أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورًا من جهته عز وجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني {هذا} أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في {أَنَّهُ} له {صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
{وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} عن اتباعي {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية.

.تفسير الآية رقم (63):

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)}
{وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات} بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الإنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادة الجميع {قَالَ} لبني إسرائيل {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} أي الإنجيل كما قال القشيري: والماوردي، وقال السدي: بالنبوة، وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل، وقال أبو حيان: أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع، وقال الضحاك: أي بالموعظة {وَلابَيّنَ لَكُم} متعلق قدر أي وجئتكم لأبين لكم، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه. وفي «الإرشاد» هو عطف على مقدر ينبئ عنه المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم {بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا عرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلًا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلًا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلًا وبعضها مفوض للاجتهاد، وقال أبو عبيدة: المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحل عليه السلام لهم لحوم الإبل والشحك من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت، وقال مجاهد: بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة، وقال قتادة: لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام {فاتقوا الله} من مخالفتي {وَأَطِيعُونِ} فيما أبلغه عنه تعالى.

.تفسير الآية رقم (64):

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)}
{إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع {هذا} أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل سالكه، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام.

.تفسير الآية رقم (65):

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}
{فاختلف الاحزاب} الفرق المتحزبة {مِن بَيْنِهِمْ} من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام، وقيل: المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام، وقد اختلفوا فرقًا ملكانية ونسطورية ويعقوبية {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} من المختلفين وهم الذين لم يقولوا: إنه عبد الله ورسوله {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي.

.تفسير الآية رقم (66):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)}
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الضمير لقريش، وأن تأتيهم بدل من الساعة، والاستثناء مفرغ، وجوز جعل إلا عنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون عنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئًا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لابد من وقوعه.
ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك، وقيل: يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل: هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون، وفيه ما فيه، وقيل: ضمير {يُنظَرُونَ} للذين ظلموا، وقيل: للناس مطلقًا وأيد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقوم الساعة والرجلات يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب. ثم قرأ عليه الصلاة والسلام {هل ينظرون إلا الساعة أن تؤتيهم بغتة وهم لا يشعرون}».

.تفسير الآية رقم (67):

{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}
{الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضر، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عز وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلا محال أن يصير عدوًا. وقيل: المعنى الإخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين إخلاء السوء، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول: هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي، وفي الثاني: من اتقى صحبة الأشرار.
والاستثناء فيهما متصل، وجوز أن يكون يومئذ متعلقًا بالإخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط.

.تفسير الآية رقم (68):

{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)}
{المتقين ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي إلخ أو فأقول: لهم بناء على أن المنادي هو الله عز وجل تشريفًا لهم، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحدًا لا يفزع فينادي مناديًا عباد إلخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (69):

{الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)}
{الذين ءامَنُواْ الذين ءامَنُواْ بئاياتنا} فييأس منها الكفار، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة، والأول أوفق من أوجه عديدة.
والموصول إما صفة للمنادي أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه، وجملة {وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} حال من ضمير {ءامَنُواْ} بتقدير قد أو بدونه، وجوز عطفها على الصلة، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ المراد بالإسلام هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الايمان فإذا جعل حالًا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الايمان، وكان تدل على الاستمرار أيضًا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف، وكذا الحال المفردة بأن يقال: الذين آمنوا بآياتنا مخلصين، وقرأ غير واحد من السبعة {فِى عِبَادِى} بالياء على الأصل، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص. وحمزة. والكسائي، وقرأ ابن محيصن {لاَ خَوْفٌ} بالرفع من غير تنوين، والحسن. والزهري. وابن أبي إسحق. وعيسى. وابن يعمر. ويعقوب. بفتحها من غير تنوين.

.تفسير الآية رقم (70):

{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}
{ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم} نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهم {تُحْبَرُونَ} تسرون سرورًا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطففين: 24] أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة؛ وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه، وقال الزجاج: أي تكرمون إكرامًا يبالغ فيه، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا.

.تفسير الآية رقم (71):

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)}
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ} بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به {بصحاف مّن ذَهَبٍ وأكواب} كذلك، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة، وقيل: أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة.
والأكواب جمع كوكب وهو كوز لا عروة له، وهذا معنى قول مجاهد لا إذن له، وهو على ما روى عن قتادة دون الإبريق، وقال: بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع كثرة والثاني جمع قلة، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف، أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في صفة الجنة. والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يؤكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانًا على سرر متقابلين» وفي حديث رواه عكرمة «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئًا» وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضًا، وإذا كان ذلك لودنى فما ظنك بالأعلى، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه.
وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف {وَفِيهَا} أي في الجنة {مَا تَشْتَهِيهِ} من فنو الملاذ {وَتَلَذُّ الاعين} أي تستلذ وتقر شاهدته، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم، وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} بصحاف دل على الأطعمة {وَأَكْوابٍ} على الأشربة، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفس} على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكنى عنه بقوله عز وجل: {وَتَلَذُّ الاعين} ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس:
«حبب إلى الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» وقال قيس بن ملوح:
ولقد هممت بقتلها من حبها ** كيما تكون خصيمتي في المحشر

حتى يطول على الصراط وقوفنا ** وتلذ عيني من لذيذ المنظر

ويوافق هذا قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بني الزمخشري قوله: هذا حصر لأنواع النعم لأنها أما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين، وتعقبه في الكشف فقال: فيه نظر لانتقاضه ستلذات سائر المشاعر الخمس، فإن قيل: إنها من القسم الأول قلنا: مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيمًا لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب؛ وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولًا، و{ءالَ} في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة.
ولعل من يقول: بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدإ والمنتهى يقول: بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة، وقيل: هي للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان {الاخلاء} [الزخرف: 67] وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر.
وفي الأخبار أيضًا ما هو ظاهر في العموم، أخرج ابن أبي شيبة. والترمذي. وابن مردويه عن بريدة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال: إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت، فقال له رجل: إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال: يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك».
وأخرج أيضًا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال: هو أصح من الأول، وجاء نحوه أيضًا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده، ولا يشكل على العموم أن اللواطة مثلًا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهي بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة.
واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول، فقد أخرج الإمام أحمد. وهناد. والدارمي. وعبد بن حميد. وابن ماجه. وابن حبان. والترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي».
وذهب طاوس. وإبراهيم النخعي. ومجاهد. وعطاء. وإسحق بن إبراهيم إلى الثاني. فقد روى عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد» وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد. وأبو بكر بن عمرو. وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم. والطبراني. وابن حبان. ومحمد بن إسحق بن منده. وابن مردويه. وأبو نعيم. وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده: لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت: «يا رسول الله أو لنا فيها يعني الجنة أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد».
وقال مجاهد. وعطاء قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها، وقال إسحق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق: إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي، وتعقب بأن {إِذَا} لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل. لو اشتهى، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدًا.
وقال السفاريني في «البحور الزاخرة» حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو سهل فيما نقله الحاكم: إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ، وفيه غير إسناد، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الاخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة، ولا ينافي ذلك ما في خديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام:
«مثل لذاتكم في الدنيا»، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعًا بين الأخبار، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء، وما قيل: إنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبقى في الجنة فضل فينشى الله تعالى لها خلقًا يسكنهم إياها» ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثًا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه.
وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم {مَا تَشْتَهِى الانفس وَتَلَذُّ الاعين} بحذف الضمير العائد على {مَا} من الجملتين المتعاطفتين، وفي مصحف عبد الله {مَا تَشْتَهِيهِ الانفس وَتَلَذُّ الاعين} بالضمير فيهما، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر. وشيبة. ونافع. وابن عامر. وحفص {وَأَنتُمْ فِيهَا} أي في الجنة، وقيل: في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى {خالدون} دائمون أبد الآبدين، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف: 68] ونودوا بذلك إتمامًا للنعمة وإكمالًا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال، ولله تعالى در القائل:
وإذا نظرت فإن بؤسًا زائلا ** للمرء خير من نعيم زائل

وعن النصرأباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فأنتم إذًا أنتم، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولًا أوليًا، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف.
وقال الطيبي: ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في {وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون} لتقف على ما لا يكتنهه الوصف.