فصل: تفسير الآية رقم (72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (72):

{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}
{وَتِلْكَ الجنة} مبتدأ وخبر وقوله تعالى: {التى أُورِثْتُمُوهَا} صفة الجنة وقوله سبحانه: {ا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} متعلق بأورثتموها، وقيل: {تِلْكَ الجنة} مبتدأ وصفة و{التى أُورِثْتُمُوهَا} الخبر والجار بعده متعلق به، وقيل: تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وا كنتم متعلق حذوف هو الخبر.
والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: {ادخلوا الجنة} [الزخرف: 70] وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل، والباء للسببية أو للمقابلة، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقال بعض: الاستعارة تمثيلية.
وجوز أن تكون مكنية، وقيل: الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}» ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضًا، وأيًا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عز وجل، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة عمله» ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض.
وأخرج هناد. وعبد بن حميد في الزهر عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل. وقرئ {ورثتموها}.

.تفسير الآية رقم (73):

{لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}
{كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدًا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا، وفي الحديث: «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها ءلا نبت مكانها مثلاها» فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة.
ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم، وقيل: إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عوامًا نظرهم مقصور على الأكل والشرب. وتعقب بأنه غير تام وللصوفية، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله تعالى عز وجل:

.تفسير الآية رقم (74):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)}
{إِنَّ المجرمين} أي الراسخين في الأجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل: إن الكفار {فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون} وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى: {الذين ءامَنُواْ بئاياتنا} [الزخرف: 69] فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلية والخوارج، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه. والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده.

.تفسير الآية رقم (75):

{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}
{لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلًا، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقًا {وَهُمْ فِيهِ} أي في العذاب، وقرأ عبد الله {فِيهَا} أي في جهنم {مُّبْلِسُونَ} حزينون من شدة البأس، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل.
ولما كان المبلس كثيرًا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة.

.تفسير الآية رقم (76):

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)}
{وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} لسوء اختيارهم، و{هُمْ} ضمير فصل فيفيد التخصيص، وقرأ عبد الله. وأبو زيد {الظالمون} بالرفع على أن هم مبتدأ وهوخبره، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد: سمعتهم يقرؤن {تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ} [المزمل: 20] برفع خير وأعظم، وقال قيس بن ذريح:
تحن إلى ليلى وأنت تركتها ** وكنت عليها بالملا أنت أقدر

وقال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدًا هو خير منك يعني بالرفع.

.تفسير الآية رقم (77):

{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}
{وَنَادَوْاْ} أي من شدة العذاب وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكًا فيدعون {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح، وإضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمنى للموت من فرط الشدة، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتًا لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتًا لشدة ما بهم. وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبًا، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود.
وقرأ عليه كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود. وابن وثاب. والأعمش {يامال} بالترخيم على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار {يامال} بالترخيم أيضًا لكن على لغة من لم ينتظر.
قال ابن جني: وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى: ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيرًا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله:
يحيى رفات العظام بالية ** والحق يامال غير ما تصف

بل للعجز وضيق المجال عن الاتمام كما يشاهد في بعض المكر وبين {وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ} أي مالك {إِنَّكُمْ ماكثون} مقيمون في العذاب أبدًا لا خلاص لكم منه وت ولا غيره، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به.
وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير اكثون من حيث أنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة.
قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل ثمانين، وقيل أربعين.

.تفسير الآية رقم (78):

{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)}
{لَقَدْ جئناكم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارهون} خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم، ولا مانع من خطابه سبحانه الكفرة تقريعًا لهم، وقيل: هو من كلام بعض الملائكة عليهم السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكًا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار.
وفيه بحث، وقيل: في {قَالَ} ضميره تعالى فالكل مقوله عز وجل، وقيل: إن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ماكثون} [الزخرف: 77] خاتمة حال الفريقين، وقوله سبحانه لقد إلخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق، وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الايمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلك دون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان {أَكْثَرَكُمْ} فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه، وقد يقال: الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليدًا. وقرئ {لَقَدِ جِئْتُكُم} وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (79):

{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)}
{أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْرًا} كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم، و{أَمْ} منقطعة وما فيها معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده، وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرًا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنا حقيقة لا هم أو فإنا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} [الطور: 42] والآية إشارة إلى ما كان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عز وجل من تدميرهم، وقيل: هو من تتمية الكلام السابق، والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنا مبرمون أمرًا في مجازاتهم، فإن كان ذاك خطابًا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين؛ وإن كان خطابًا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فكأنه قيل: فإنا مبرمون أمرًا في مجازاتهم وإظهار أمرك، وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم، ولا يغني عنهم شيئًا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا القيل للاشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ويؤيده ما ذكر أولًا على ما قيل قوله تعالى:

.تفسير الآيات (80- 81):

{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)}
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرًا قد أخفوه فيناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد {ونجواهم} أي تناجيهم وتحادثهم سرًا.
وقال غير واحد: السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوي ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي {بلى} نسمعهما ونطلع عليهما {وَرُسُلُنَا} الذين يحفظون عليهم أعمالهم {لَدَيْهِمْ} ملازمون لهم {يَكْتُبُونَ} أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر.
والمضارع للاستمرار التجددي، وهو مع فاعله خبر و{لَدَيْهِمْ} حال قدم للفاصلة أو خبر أيضًا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بلى أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه، وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى، وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة، ولا يبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الاطلاع فيكتبوه.
ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال؛ والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة، فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قرشيان وقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد: إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت {أَمْ يَحْسَبُونَ الاية}.
وقيل: إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عز وجل منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه {قُلْ} أي للكفرة تحقيقًا للحق وتنبيهًا لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى: {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي لذلك الولد وكان عنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها، و{أَوَّلُ} أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم، وجوز اعتبار ذلك مطلقًا، والمراد إظهار الرغبة والمسارعة، والمنساق إلى الذهن الأول.
ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤنه تعالى وا يجوز عليه وا لا يجوز وأحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجبه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد، فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فإنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، وهذا نفي لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلى الله عليه وسلم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه، وذلك نظير قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لكنه جيء بأن دون لو لجعل ما في حيزها نزلة ما لا قطع بعدمه على طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والإفحام.
وفي الكشف أن في الآية مبالغة من حيث أنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة والسلام لما يدعونه ولدًا محالًا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببًا عن محال ثم نفي للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلى الله عليه وسلم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه، ونحوها ذكر في الآية مرويًا عن قتادة. والسدى. والطبري.
وأخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد. وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة والسلام أول العابدين كونه صلى الله عليه وسلم من ينكر ذلك عليهم، والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد، وقد خفى ذلك على الإمام فنفى صحة هذا الوجه، وتكلف بعضهم فقال: إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقوا على ذلك الزعم يكون النبي صلى الله عليه وسلم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة، وقيل: إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو أن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله، والإنصاف أن الارتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد، وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدًا منهم أن {العابدين} من عبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء، ومنه قوله:
وأعبد أن اهجو كليبًا بدارم

وقول الآخر:
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ** ويعبد عليه لا محالة ظالمًا

أي أن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عز وجل. وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} فقال: أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد، وأيد ذلك بقراءة السلمي.
واليماني {العابدين} جمع عبد كحذر وحذرين وهو المعروف في معنى أنف وقلما يقال فيه فابد، ومن هنا ضعف ابن عرفة هذا الوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم، وذكر الخليل في كتاب العين أنه قرئ {العابدين} بسكون الباء تخفيف العبدين بكسرها، وقال أبو حاتم: العبد بكسر الباء الشديد الغضب، وقال أبو عبيدة: العرب تقول عبدني حقي أي جحدني، وروي عن الحسن. وابن زيد. وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس. وقتادة. والسدى أيضًا أن {ءانٍ} نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال ذلك وعبد ووحد، و{كَانَ} عليه للاستمرار والمقصود استمرار النفي لا نفي الاستمرار والفاء للسببية. وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها، وزعم مكي أنه لا يجوز لا يهامه نفي الولد فيما مضى وهو كما ترى.
وقرأ عبد الله. وابن وثاب. وطلحة. والأعمش. وحمزة. والكسائي كما قال القاضي {وَلَدَ} بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما.