فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (12):

{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
{وَمِن قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى: {كِتَابُ موسى} قدم للاهتمام، وجوز الطبرسي كون {كِتَابٌ} معطوفًا على {شَاهِدٌ} [الأحقاف: 10] والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف، والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله، وجعل ضمير {قَبْلِهِ} للقرآن أيضًا وليس بشيء أصلًا، وقوله سبحانه: {إَمَامًا وَرَحْمَةً} حال من الضمير في الخبر أو من {كِتَابٌ} عند من جوز الحال من المبتدأ، وقيل: حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إمامًا وهو كما ترى.
والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتصي به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدي بالإمام ورحمة من الله سبحانه لمن آمن به وعمل وجبه، وقوله تعالى: {وهذا} أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون {كِتَابٌ} مبتدأ خبر، وقوله عز وجل: {مُّصَدّقُ} نعت {كِتَابٌ} وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية، وقد قرئ {مُّصَدّقٌ لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة، وأيًا ما كان فالكلام رد لقولهم: {هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] وإبطال له، والمعنى كيف يصح كونه إفكًا قديمًا وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية، وقوله تعالى: {لّسَانًا عَرَبِيًّا} حال من ضمير {كِتَابٌ} المستتر في {مُّصَدّقُ} أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة، وعامله على الأول {مُّصَدّقُ} وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل، وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الأشعار بالدلالة على أن كونه مصدقًا كما دل على أن حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى.
هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر، وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحيانًا ينكرون انزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام مطلقًا. وفي الكشف وجه تقديم الخبر في قوله تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إمامًا ورحمة كان إنزال التوراة كذلك، وليس من تقديم الاختصاص بل لأن العناية والاهتمام بذكره، ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الاعتراض من حال كتاب موسى عليه السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وأن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه إلى أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول؛ وهو بالحقيقة إعادة للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دل فيه على أن كونه مصدقًا كانف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا، وإن قلي: نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل: {وَمِن قَبْلِهِ} لا من بعده لكان وجهًا موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى.
وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية.
وجوز كون {لّسَانًا} مفعولًا لمصدق والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه وافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقًا وإعجازه، وجوز على المفعولية كون {هذا} إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، ويراد بلسانًا عربيًا القرآن، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم، والأصل وهو مصدق لسانًا عربيًا، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى. وقرأ الكلبي {وَمِن قَبْلِهِ} بفتح الميم {كِتَابُ موسى} بالنصب، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا {كِتَابٌ} أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى.
{لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} متعلق صدق وفيه ضمير لكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء. وشيبة. والأعرج. وأبي جعفر. وابن عامر. ونافع. وابن كثير في رواية {لّتُنذِرَ} بتاء الخطاب فإنه لا يصح بدون تكلف لغير الرسول، والتعليل صحيح على الكل، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز {وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل، وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل {لّيُنذِرَ} لأنه مفعول له، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر، والنصب ناشيء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه، وحكى في إعرابه أوجهًا فقال: قيل معطوف على {مُّصَدّقُ} وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى، وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على {ينذر} أي ويبشر بشرى، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى، والظاهر أن {وَسَنَزِيدُ المحسنين} في مقابلة {الذين ظَلَمُواْ} والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنين. وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى {المحسنين} ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، وقيل: {المحسنين} دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى: {الذين ظَلَمُواْ} ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (13):

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل، و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي فالعمل متراخى الرتبة عن التوحيد، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات محبوب، والمراد استمرار النفي، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كان كانت أسماؤها موصولات، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسيره ما ذكرنا فليراجع.

.تفسير الآية رقم (14):

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بما كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}
{أولئك} الموصوفون اذكر من الوصفين الجليلين {أصحاب الجنة خالدين فِيهَا} حال من المستكن في {أصحاب} وقوله تعالى: {جَزَاء} منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء، والجملة استئناف أو حال وإما عنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة} في معنى جزيناهم {ا كَانُوا يَعْلَمُونَ} من الحسنات القلبية والقالبية.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا} نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].
{وإحسانًا} قيل: مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى الزمنا، وقيل: منصوب على المصدر على تضمين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانًا، وقيل: صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقيل: مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما، وقال ابن عطية: إنه منصوب على المصدر الصريح و{بوالديه} متعلق بوصينا، أو به وكأنه عنى يحسن إحسانًا وهو حسن، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحسانًا بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول: أحسنت لزيد ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصًا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري، وقد قالوا: إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه.
والجار والمجرور محمول عليه، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كـ {لا تأخذكم بهما رأفة} [النور: 2] ومعرفة نحو {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} [الصافات: 102] وتأويل كل ذلك تكلف، وأيضًا قوله: لأن أحسن لا يتعدى بالباء إلخ فيه منع ظاهر، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال: وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانًا، ولعل التنوين للتفخيم أي إحسانًا عظيمًا، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدًا، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وقرأ الجمهور {حَسَنًا} بضم الحاء وإسكان السين أي فعلًا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه، وجوز أبو حيان فيه أن يكون عنى {إحسانا} فالأقوال السابقة تجري فيه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وعيسى {حَسَنًا} بفتح الحاء والسين، وعن عيسى {حَسَنًا} بضمهما.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} أي ذات كره أو حملًا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد.
والحسن. وقتادة، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تحد له ثقلًا. وقرأ شيبة. وأبو جعفر. والحرميان {كَرْهًا} بفتح الكاف وهما لغتان عنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف، وقيل: المضموم اسم والمفتوح مصدر.
وقال الراغب: قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع. وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال: لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة. وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراآت بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه {وَحَمْلُهُ وفصاله} أي مدة حمله وفصاله، وبتقدير المضاف يصح حمل قوله تعالى: {ثَلاَثُونَ شَهْرًا} على المبتدأ من غير كره.
والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته. وقرأ أبو رجاء. والحسن. وقتادة. ويعقوب. والجحدري {وفصاله} أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناءً ومعنى؛ وقيل: الفصال عنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهى بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وفي الوصف تطويل، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب، فقد روي «أن رجلًا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أباك» وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك. واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء، قال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك.
وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه؛ وقال ابن سينا في الشفا: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدًا نبتت أسنانه، وحكي عن أرسطو أنه قال: أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فرا وضعت المرأة لسبعة أشهر ورا وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر؛ وتحقق ارتباط حكم النسب بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لما يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الظاهر أنه غير بلوغ الأشد، وقال بعضهم: إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد.
وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدًا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد، وفي الحديث: «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح» وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ** له دون ما يهوى حياءً ولا ستر فدعه

ولا تنفس عليه الذي مضى ** وإن جر أسباب الحياة له العمر

وقيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين، وذهب الفخر إلى خلافه مستدلًا بأن عيسى ويحيى عليهما السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما، وهو ظاهر كلام السعد حيث قال: من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام إلى آخر ما قال.
وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى {قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ الكتاب وَجَعَلَنِى نَبِيًّا} [مريم: 30]، {وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيًّا} [مريم: 12] بأنهما أخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل، ومثله كثير في الآيات وغيرها، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ. وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلًا كالرقيق والأنثى، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم: {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى} أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعًا به راغبًا في تحصيله. وقرأ البزي {أَوْزِعْنِى} بفتح الياء {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذٍ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم، وقيل: إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى.
واعترض على التعليل بابن عمر. وأسامة بن زيد. وغيرهما، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب: إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلى الله عليه وسلم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبئ وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال: {رَبّ أَوْزِعْنِى} إلخ {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} التنوين للتفخيم والتكثير، والمراد بكونه مرضيًا له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالمًا من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك: وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية {وَأَصْلِحْ لِى فِي ذُرّيَّتِى} أي اجعل الصلاح ساريًا في ذريتي راسخًا فيهم كما في قوله:
فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها ** لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي

على أن {إصلاح} نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي، وقيل: عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي ألطف بي في ذريتين، والأول أحسن، قال ابن عباس: أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال. وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئًا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه، ودعا أيضًا فقال: {إصلاح لِى فِي ذُرّيَّتِى} فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعًا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعًا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين {إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عما لا ترضاه أو يشغل عنك {وَإِنّى مِنَ المسلمين} الذين أخلصوا أنفسهم لك.