فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (26):

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)}
{وَلَقَدْ مكناهم} أي قررنا عادًا وأقدرناهم، و{مَا} في قوله تعالى: {فِيمَا إِن مكناهم فِيهِ} موصولة أو موصوفة و{ءانٍ} نافية أي في الذي أوفى شيء ما مكنا فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} [الأنعام: 6] ولم يكن النفي بلفظ {مَا} كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ماما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فرارًا من كراهة التكرار، وعابوا على المتنبي قوله:
لعمرك ماما بان لضارب ** بأقتل مما بان منك لعائب

أي ما الذي بان إلخ، يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب وذلك للضارب، وكان يسعه أن يقول: إن مابان، وادخال الباء للنفي لا للعمل على أن اعمال إن قد جاء عن المبرد، قيل: {ءانٍ} شرطية محذوفة الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم، وقيل: إنها صلة بعدما الموصولة تشبيهًا بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية مثلها في قوله:
يرجى المريء ما أن لا يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه، وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في مواضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الاعتبار {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وأبصارا وَأَفْئِدَةً} ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤون منعمها عز وجل ويداوموا على شكره جل شأنه {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل {وَلاَ أبصارهم} حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم {وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ} حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى: {مِن شَيْء} أي شيئًا من الإغناء، و{مِنْ} مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل.
وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل، و{مَا} في {مَا أغنى} نافية وجوز كونها استفهامية. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة {مِنْ} في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح. ورد بأنهم قالوا: تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام، وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر، وأيضًا مسموعهم من الرسل متحد.
{وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم} ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى: {مَا أغنى} وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازًا لاستواء مئدى الظرف والتعليل في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق عانيهما الوضعية {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون: {فَأْتِنَا بما تَعِدُنَا إِن كُنَّا مِن *الصادقين} [الأحقاف: 22].

.تفسير الآية رقم (27):

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا} مَا حَوْلَكُمْ يا أهل مكة {مّنَ القرى} كحجر ثمود وقرى قوم صالح، والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها لقوله تعالى: {وَصَرَّفْنَا الايات} أي كررناها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وأمر {مَا} سهل، والترجي مصروف لغيره تعالى أو {لَعَلَّ} للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الايمان والطاعة.

.تفسير الآية رقم (28):

{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
{فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ} فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه {الذين اتخذوا} أي آلهتهم الذين اتخذوهم.
{مِن دُونِ الله قُرْبَانًا ءالِهَةَ} والضمير الذي قدرناه عائدًا هو المفعول الأول لاتخذوا و{ءالِهَةً} هو المفعول الثاني و{قُرْبَانًا} عنى متقربًا بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقربًا بها إلى الله عز وجل حيث كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] و{هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] وفي الكلام تهكم بهم.
وأجاز الحوفي كون {قُرْبَانًا} مفعولًا من أجله، وأجاز هو أيضًا. وابن عطية. ومكي. وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لاتخذوا وجعل {ءالِهَةً} بدلًا منه، وقال في الكشاف: لا يصح ذلك لفساد المعنى، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال: تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به، وأراد كما في الكشف أنه إذا جعل مفعولًا ثانيًا يكون المعنى فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قربانًا بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قربانًا إليهم وهو معنى فاسد. واعترض عليه بجعل {دُونِ} عنى قدام كما قيل به في قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} [البقرة: 23] وبأنه قد قيل: إن قربانًا مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام. وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون عنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه، واتخاذهم قربانًا ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عز وجل ويقربوهم إليه سبحانه، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة، وحينئذ إن كان مستقرًا حالًا لزم ما لزم في الأول.
ولا يجوز أن يكون معمول {قُرْبَانًا} لأنه اسم جامد عنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملًا كالقارورة وإن كان فيها معنى القراء، وفيه نظر. وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد. {بَلْ ضَلُّواْ} إلخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء، وقال بعضهم في امتناع كون {قُرْبَانًا} مفعولًا ثانيًا و{ءالِهَةً} بدلًا منه: إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لابد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم: اتخذوهم من دون الله قربانًا أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانًا متجاوزين الله تعالى في ذلك، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال: الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا.
وقال الطيبي. إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل.
وقرئ {قُرْبَانًا} بضم الراء {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي غابوا عنهم، وفيه تهكم بهم أيضًا كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور {وَذَلِكَ} أي ضلال آلهتهم عنهم {إِفْكِهِمْ} أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عز وجل، وقيل: ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف. وقرأ ابن عباس في رواية {إِفْكِهِمْ} بفتح الهمزة والإفك والأفك مصدران كالحذر والحذر. وقرأ ابن الزبير والصباح بن العلاء الأنصاري. وأبو عياض. وعكرمة. وحنظلة بن النعمان بن مرة. ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضًا {إِفْكِهِمْ} بثلاث فتحات على أن إفك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، {وَمَا كَانُواْ} قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها.
وأبو عياض. وعكرمة أيضًا كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير، وابن الزبير أيضًا. وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه {إِفْكِهِمْ} بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون؛ وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل عنى فعل، وحكى في البحر أنه قرئ {إِفْكِهِمْ} بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب. وأبو الفضل الرازي {إِفْكِهِمْ} اسم فاعل من إفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق. وقرئ {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ مّمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} والمعنى ذلك بعض ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالافك عنى الاختلاق فلا تغفل.

.تفسير الآية رقم (29):

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الجن} أي أملناهم إليك ووجهناهم لك، والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذ حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة، وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين، وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا.
والجار والمجرور صفة {نَفَرًا} وقوله تعالى: {يَسْتَمِعُونَ القرءان} حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع، ولذا قرئ. {صَرَفْنَا} بالتشديد للتكثير، و{إِذْ} معمولة لمقدر لا عطف على {أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرًا من الجن مقدرًا استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث أنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وآمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب، ووقعوعها إثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكى عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضًا كما قال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل إن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد، وسيأتي الكلام في حقيقتهم.
{فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي القرآن عند تلاوته، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز، وقيل: الرسول صلى الله عليه وسلم عند تلاوته له ففيه التفات {قَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض {أَنصِتُواْ} اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم {فَلَمَّا قضى} أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز. وحبيب بن عبد الله {قَضَى} بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيد بذلك عود ضمير {حَضَرُوهُ} إليه عليه الصلاة والسلام.
{وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم، قيل: أنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل: من نينوى وهي أيضًا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددًا وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة مكة المكرمة.
فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد. والشيخان. والترمذي. والنسائي. وجماعة عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم.
وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا فلما قضى وفرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} [الجن: 1].
وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلى الله عليه وسلم بهم شجرة وكانوا على ما روى عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة. ثلاثة أمن أهل حران. وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسي. ومسي. وشاصر. وماصر. والاردوانيان. وسرق. والأحقم. يم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب الروض بدل حسي. ومسي. منشيء. وناشيء.
وأخرج ابن جرير، والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر: كانوا تسعة عشر من أهل تصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلًا إلى قومهم، والخبر السابق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد. وأحمد. ومسلم. والترمذي. وأبو داود عن علقمة قال «قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم.
وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال: «قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال: فخط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: قم هاهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلًا طويلًا حتى جاءني مع الفجر فقال لي: هل معك من وضوء قلت: نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قال يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: جن نصيبين» فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن، وقد أخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن الحبر أنه قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك، فقد أخرج أبو نعيم. والواقدي عن كعب الأحبار قال: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والاردوانيان. والأحقب جاء واقومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحق فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلى الله عليه وسلم لساعة من الليل بالحجون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: هم اثنا عشر ألفًا من جزيرة الموصل، وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضًا وأن السورة التي قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم {اقرأ باسم رَبّكَ} [العلق: 1]، ونقل في البحر عن ابن عمر. وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 13] قالوا: لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد، وأخرج أبو نعيم في الدلائل. والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة وفي معناه ما قيل: كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم مكث كة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر.
وقيل: كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء.