فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (13):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}
{وَكَأَيّن} عنى كم الخبرية وهي مبتدأ، وقوله تعالى: {مِن قَرْيَةٍ} تمييز لها، وقوله سبحانه: {هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ} صفة لقرية كما أن قوله عز وجل: {التى أَخْرَجَتْكَ} صفة لقريتك، وقد حذف عنهما المضاف وأجرى أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: {أهلكناهم} أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازًا، وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلى الله عليه وسلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى الله عليه وسلم بما عاملوه فكانوا بذلك سببًا لإخراجه حين أذن الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك. وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة بحتمل أوجهًا ثلاثة. مجازًا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملًا في معناه الذي وضع له وإن كان موهومًا. ومجازًا في الطرف إذا كان مستعملًا في معنى الحمل على القدوم. واستعارة باكلناية إن كان الحق مستعملًا في المقدم، والشيخ يقول في مثل ذلك: إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلًا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيًا للقدوم، وارتضاه السالكوتي في «حواشي شرح مختصر التلخيص» وذب عنه القال والقيل، وتمام الكلام هناك، والكلام في الآية على طرز ذاك، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولو يتهابه لقوة جنايتها، وعلى طريقته قول النابغة:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ** وأيسر جرمًا منك ضرح بالدم

وقوله تعالى: {فَلاَ ناصر لَهُمْ} بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وخو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضي، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج عبد بن حميد. وأبو يعلى. وابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} إلخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر.

.تفسير الآية رقم (14):

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرئ بدونها، و{مِنْ} عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: {كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} عبارة عن أضدادهم من المشركين.
وأخرج جماعة عن ابن عباس أن {مَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم و{مّن زِينَةِ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} هم المشركون، وروى عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، وقيل: ومثله كون {مِنْ} الأولى عبارة عنه صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتًا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح {واتبعوا} في ذلك العمل السيء، وقيل: بسبب ذلك التزيين {أَهْوَاءهُمْ} الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلًا عن حجة تدل عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى {مِنْ} كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} إلى آخره استئناف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة آنفًا للمؤمنين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إلى جريانها من تحتها وعبر عنهم بالمتقين إيذانًا بأن الايمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيآت، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شمير: تقديره ما تسمعون، وقوله عز وجل: {فِيهَا أَنْهَارٌ} إلى آخره مفسر له، وقال سيبويه: تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدمًا {وَفِيهَا أَنْهَارٌ} إلخ بيان لذلك المثل، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر، وقيل: هو مذكور فقيل هو قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ} إلخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخبر إلى رابط.
وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ {مَثَلُ} زائدة زيادة اسم في قول من قال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل: الجنة فيها أنهار إلخ وليس بشيء، وقيل: الخبر قوله تعالى الآتي: {كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار} وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وعبد الله. والسلمي {أصحاب الجنة} أي صفاتها، قال ابن جني: وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضًا أنه قرئ {أصحاب الجنة} ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به.
{مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه، وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة. وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح، والمصدر أسون، وأسن بسكر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي، وأسن الرجل بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليها أو دار رأسه ومنه قول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرًا أنامله ** يميد في الريح ميد المائح الأسن

وقرأ ابن كثير. وأهل مكة {ءاسِنٍ} على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وقرأ {يسن} بالياء قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة {ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لم يحمض ولم يصر قارصًا ولا حذارًا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم {وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين} أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أومصدر نعت به بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك؛ وقرئت بالرفع على أنها صفة {أَنْهَارٌ} وبالنصب على أنها مفعول له أي كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا {وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} مما يخالفه فلا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها، ووصفه صفى لأن الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان.
وغيره، وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها.
وبدئ بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغني عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة، وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب، وقال سعيد بن جبير: أنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل. وأخرج ابن جرير عن سعد قال: سألت أبا إسحق عن قوله تعالى: {مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} فقال: سألت عنه الحرث فحدثني أن ذلك الماء تسنيم وقال بلغني: أنه لا تمسه يد وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل الفم.
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وأنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل.
وأخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده. والبيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخيار ونحوها، ثم إنها إن صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية لا يتعاصاها شيء {وَلَهُمْ فِيهَا} مع ما ذكر من فنون الأنهار {مِن كُلّ الثمرات} أي أنواع من كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقيل: {مِنْ} زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات {وَمَغْفِرَةٌ} مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة، وجوز أن يكون عطفًا على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازًا عن رضوان الله عز وجل، وقد يقال: المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذٍ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر، وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصرًا عليه ولعله أولى مما قالوه، وتنوين {مَغْفِرَةٍ} للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها، وقوله تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} متعلق حذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم، وقوله عز وجل: {كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار} خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسا جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: {والنار مَثْوًى لهم} [محمد: 12] لهم، وجوز أن يكون بدلًا من قوله سبحانه: {كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} [محمد: 14] وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقريرًا لإنكار المساواة وفيه بعد. وذهب جار الله إلى أنه خبر {مَّثَلُ الجنة} وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ} [محمد: 14] إلخ، والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير، وفائدة التعرية عن حرف الإنكار أن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب، ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر:
أفرح إن أرزأ الكرام وإن ** أورث ذودًا شصائصا نبلا

فإنه كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له: أتفرح وت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحته كل إنكار، وجعل قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ} كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود، ولهذا لم يتخلل العاطف بينهما، وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك و{أَنْهَارٌ} فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الاسمية حال لعدم الواو فيها، وقد صرحوا بأن الاكتفاء فيها بالضمير غير فصيح، واعتبارها فعلية بتقدير متعلق الظرف استقر لا يخفى حاله، وقيل: في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجيء الفضلات وهي أم الإنكار، وأيضًا هو حال من الجنة لا من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف، ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضًا تكلف، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني، قال في الكشف: وهو الوجه، والتقدير هي فيها أنها وكأنه قيل: أنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار فالاستئناف هاهنا نزلة قولك: وهي كذا وكذا اعتراضًا لما في لفظ المثل من الأشعار بالوصف العجيب، وليس خبر الجملة السابقة {وَهُوَ كَمَنْ هُوَ خالد فِي النار} مورد السؤال ليعترض بوقوع الاستئناف قبل مضيه.
وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن {فِيهَا أَنْهَارٌ} جملة برأسها، والجواب أن التقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعًا ثم حذف ولهذا قال: في السؤال كأن قائلًا قال: وما مثلها؟ ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه {أمثال} بالجمع فيقال: التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار، ويقدر المضاف الأول جمعًا للمطابقة، ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى، وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل {رَّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالد} خبر لمثل الجنة: هذا هو الوجه اللائح المناسب للمساق.
وقال ابن المنير: في الانتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفًا ليتعادل، والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار، ومن هذا النمط قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله} [التوبة: 19] إلخ؛ وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، والضمير المفرد أعني {هُوَ} راجع إلى {مِنْ} باعتبار لفظها كما أن ضمير الجمع في قوله سبحانه: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيمًا} راجع إليها باعتبار معناها، والمراد وسقوا ماءً حارًا مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} من فرط الحرارة.
روي أنه إذا أدنى منهم شوي وجوههم وامتازت فروة رؤوسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث.