فصل: تفسير الآية رقم (259):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (259):

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
{أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ} عطف على سابقه والكاف إما اسمية عنى مثل معمولة لأرأيت محذوفًا أي أو أرأيت مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة {ألم تر} [البقرة: 258] عليه على أنه قد قيل: إن مثال هذا النظم كثيرًا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله:
قال لها كلابها أسرعي ** كاليوم مطلوبًا ولا طابًا

وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما كما في قولك الفعل الماضي مثل: نصر، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل: لأن منكر الإحياء كثير، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية، وقيل: إنها زائدة وإلى ذلك ذهب الأخفش أي: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر إلخ، وقيل: إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل: ألم تر كالذي حاج أو كالذي مر وقيل: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره جوابًا لمعارضة ذلك الكافر، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مرّ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على {الذى} نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول {إلى} على الكاف، وفيه إشكال لأنها إن كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم، وهو عن وذلك على قلة أيضًا، وقال بعضهم: إن كلا من لفظ {ألم تر} و{أرأيت} مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول: تعلق بالتعجب منه فيقال: ألم تر إلى الذي صنع كذا عنى أنظر إليه فتعجب من حاله، والثاني: ثل المتعجب منه فيقال أرأيت مثل الذي صنع كذا عنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح ألم تر إلى مثله إذ يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع، ولذا لم يستقم عطف {الذي مر} على {الذي حاج} [البقرة: 258] ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقًا حذوف أي أرأيت كالذي مر فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرًا إلى أنه في معنى أرأيت كالذي حاج فيصح العطف عليه؛ ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول {إلى} على الكاف بل لو قلت: ألم ترى إلى الذي حاج أو مثل الذي مر فعدم الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لابد في التعجب بكلمة {أرأيت} من إثبات كاف، أو ما في معناه ولا يخفى أن هذا من الغرابة كان فإن {ألم تر} يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه، و{أرأيت} كثيرًا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه، وفي الثاني ثله، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولًا سوى أن تقدير {أرأيت} مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر.
و أو للتخيير أو للتفصيل والمار هو عزيز بن شرخيا كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله تعالى وجهه وإسحق بن بشر عن ابن عباس وعبد الله بن سلام، وإليه ذهب قتادة وعكرمة والربيع والضحاك والسدي وخلق كثير وقيل: هو أرميا بن خلقيا من سبط هارون عليه السلام وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب وهب، وقيل: هو الخضر عليه السلام وحكي ذلك عن ابن إسحق وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد، وأن أرميا هو الخضر بعينه، وقيل: شعيا، وقيل: غلام لوط عليه السلام، وقال مجاهد: كان المار رجلًا كافرًا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرًا وليست هي فيه مثلها في {أنى يَكُونُ لِي غلام} [آل عمران: 40] و{أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ} [آل عمران: 47] وعورض بما بين قصته إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره قوى المعارض جدًا، وإن قلنا: بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في {الله وَلِىٌّ الذين آمنوا} [البقرة: 257] إلخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى، والقرية قال ابن زيد: هي التي خرج منها الألوف، وقال الكلبي: دير سابراباد، وقال السدي: دير سلما باذ، وقيل: دير هرقل، وقيل: المؤتفكة، وقيل: قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس، وقال عكرمة والربيع ووهب: هي بيت المقدس وكان قد خربها بخنتصر وهذا هو الأشهر، واشتقاقها من القرى وهو الجمع {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه، وقيل: المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق بخاوية وعلى الثاني حذوف وقع خبرًا بعد خبر لهي والجملة قيل: في موضع الحال من الضمير المستتر في {مرّ} وقيل: من {قرية} ويجيء الحال من النكرة على القلة، وقيل: في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو، ومن الناس من جوز كون {على عُرُوشِهَا} بدلًا من {قَرْيَةٌ} بإعادة الجار وكونه صفة لها، وجملة {وَهِىَ خَاوِيَةٌ} إما حال من العروش أو من القرية أو من ها والعامل معنى الإضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه {قَالَ} في نفسه أو بلسانه {أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر، فالإحياء والإماتة مجازان عن العمارة والخراب، أو بتقدير مضاف أي أصحاب هذه القرية فالإحياء والإماتة على حقيقتها، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة، والسياق دال على ذلك، والإحياء والإماتة على حالهما أيضًا، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه ثم في غيره، ثم أراه ما استبعده صريحًا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلف في خلده، وعلى القول الثاني يكون اعترافًا بالعجز عن معرفة طريق الإحياء واستعظامًا لقدرة المحيي إذا قلنا: إن القائل كان مؤمنًا وإنكارًا للقدرة على ذلك إن كان كافرًا، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء لأهل، أو عظامهم يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابًا أو عظامًا نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل، و{إِنّى} نصب على الظرفية إن كانت عنى متى، وعلى الحالية من هذه إن كانت عنى كيف، والعامل فيه على أي حال {يحيى}.
{فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ} أي فألبثه ميتًا مائة عام ولابد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة عنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد، والعام السنة من العوم وهو السباحة، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها {ثُمَّ بَعَثَهُ} أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلًا فاهما مستعدًا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكًا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له: كوسك فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى: {قَالَ} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له؟ فقيل قال: {كَمْ لَبِثْتَ} ليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و{كَمْ} نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره: كم وقتًا والناصب له {لَبِثْتُ} والظاهر أن القائل هو الله تعالى، وقيل: هاتف من السماء، وقيل: جبريل، وقيل: نبي، وقيل: رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازًا {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قاله بناءًا على التقريب والتخمين أو استقصارًا لمدة لبثه، وقيل: إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس: {يَوْمًا} ثم التفت فرأى بقية منها فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} على الاضراب، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناءًا على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} قيل: كان طعامه عنبًا أو تينًا وشرابه عصيرًا أو لبنًا {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة، واشتقاقه من السنة وفي لامها اختلاف فقيل: هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضًا طريًا غير متكرج، وقيل: أصله لم يتسنن ومنه الحمأ المسنون أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت: تظنيت وفي تقضضت: تقضيت، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء، ثم أبدلت الياء ألفًا، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال، وقد جاء مثلها بغير واو خلافًا لمن تردد فيه كقوله تعالى: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} [آل عمران: 174] و{أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْء} [الأنعام: 39] وصاحبها إما الطعام والشراب، وإفراد الضمير لإجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله، وهذا شربك لم يتسنه وقرأ أبي لم يسنه بإدغام التاء في السين واستشكل تفرع {فانظر} على لبث المائة بالفاء وهو يقتضي التغير، وأجيب بأن المفرع عليه ليس لبث المائة بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانًا قليلًا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيًا من غير غذاء، وقيل: إن التقدير إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى: {وانظر إلى حِمَارِكَ} كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده، وكون المراد أنظر إليه سالمًا في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب ليس بشيء ولا يساعده المأثور {وَلِنَجْعَلَكَ} متعلق قدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك، ومنهم من قدره متأخرًا، وقيل: إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على {لَبِثْتُ} أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدي ولنجعلك، وقيل: إنه عطف على {قَالَ} ففيه التفات. {ءايَةً} أي عبرة أو مرشدًا {لِلنَّاسِ} أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره{وانظر إِلَى العظام} أي عظام الحمار كما قاله السدي وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد، وثانيًا: هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها، وقيل: عظام أموات أهل القرية، وعن قتادة. والضحاك. والربيع عظام نفسه قالوا: أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها، وقيل: عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. {كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، وقال الكسائي: نلينها ونعظمها، وقرأ أبيّ {ننشيها}، وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ننشرها من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالإحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس، وقرأ أبان عن عاصم ننشرها بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسطها، والجملة قيل: إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحمًا أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية إنشازها وبسط اللحم عليها، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا، وأجيب بأن الاستفهام ليس حقيقته فما المانع من الحالية، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح كما قيل لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها، وفي بعض الآثار إن ملكًا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعًا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقًا{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي اتضح اتضاحًا تامًا له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء باديه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللاشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل: فأنشرها الله تعالى وكساها لحمًا فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء} ومن جلمته ما شوهد {قَدِيرٌ}.
وقيل: فاعل {تبين} مضمر يفسره مفعول {أعلم} فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدًا قيل: وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور، وقد صرح بازات الفن بخلافه كأبي علي وغيره مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى: {هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه} [الحاقة: 19] ولما رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم يصرحوا به، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما فلما حصل له التبين قال أعلم إلخ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} على البناء للمفعول، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرًا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناءًا على الاستبعاد العادي واستعظامًا للأمر، وقرأ ابن مسعود قيل اعلم على وجه الأمر، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ {قَالَ أَعْلَمُ} ويقول: لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى له: {أَعْلَمُ أَنَّ الله} [البقرة: 260] وبذلك قرأ حمزة والكسائي، والآمر هو الله تعالى أو النبي أو الملك، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتًا لها موبخًا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد، يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها: يا هذه أهذا منزل عزير؟ قالت: نعم وبكت وقالت: ما رأيت أحدًا منذ كذا وكذا وكذا سنة يذكر عزيرًا وقد نسيه الناس قال: فإني أنا عزير قالت: سبحان الله فإن عزيرًا قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال: فإني عزير كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت: فإن عزيرًا كان رجلًا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد عليّ بصري حتى أراك فإن كنت عزيرًا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفًا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر: حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد فعند قالوا: عزير ابن الله، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات: {لا إِكْرَاهَ فِي الدين} لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه {قَد تَّبَيَّنَ} ووضح {الرشد} الذي هو طريق الوحدة وتميز {مِنَ الغي} الذي هو النظر إلى الأغيار {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} وهو ما سوى الله تعالى: {وَيُؤْمِن بالله} إيمانًا حقيقيًا شهوديًا {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} التي هي الوحدة الذاتية {لاَ انفصام لَهَا} في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشؤون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها {والله سَمِيعٌ} يسمع قول كل ذي دين {عَلِيمٌ} [البقرة: 256] بنيته {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ} وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره {يُخْرِجُهُم مّنَ} ظلمات النفس وشبه الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح {والذين كَفَرُواْ} بالميل إلى الاغيار {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا إليه {يُخْرِجُونَهُم مّنَ} نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات {أولئك} المبعدون عن الحضرة {أصحاب النار} الطبيعية {هُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 257] {أَلَمْ تَرَ الذي حَاجَّ إبراهيم فِي رِبّهِ} وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردًا وسلامًا، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام {أَنْ آتاه الله الملك} الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية {إِذْ قَالَ إبراهيم} الروح أو إبراهيم الخليل {رَبّى} أي من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته {الذى يحيى} من توجه إليه {وَيُمِيتُ} من أعرض عنه، أو يحيى ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين {قَالَ} نمروذ النفس الأمارة، أو الجبار {أَلَمْ تَرَ} بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات {وَأُمِيتُ} بعضها بتعطيله عن ذلك برهة، أو أحيى بالعفو وأميت بالقتل {قَالَ إبراهيم} الروح، أو الخليل {إِنَّ الله يَأْتِىَ} بشمس العرفان {مِنْ} وهو جانب المبدأ الفياض {المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} أي أظهرها بعد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها، أو أن الله يأتي بشمس الروح من مشرقها وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن فأت بها بعدما غربت أي فأرجعها إلى من قتلته وأمته، وعلى هذا يكون من تتمة الأول {فَبُهِتَ} وغلب {الذى كَفَرَ} [البقرة: 258] وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين {أَوْ كالذى مَرَّ} وهو العقل الإنساني {على قَرْيَةٍ} القلب الذي هو البيت المقدس، أو هو عزير النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي باسمه تعالى المحيى {وَهِىَ خَاوِيَةٌ} خالية من التجليات النافعة ثابتة {على عُرُوشِهَا} صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم {قَالَ} لذهوله عن النظر إلى الحقائق {إِنّى} متى، أو كيف {يحيى هذه} القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال {بَعْدَ مَوْتِهَا} بداء الجهل والالتفات إلى السوى {فَأَمَاتَهُ الله} أبقاه جاهلًا مائة عام أي مدة طويلة، وقيل: هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها إلا يومًا أو بعض يوم استصغارًا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى، أو أماته حتف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال: بل لبثت في الحقيقة مائة عام {فانظر إلى طَعَامِكَ} وكان التين أو العنب، والأول: إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبًا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين، والثاني: إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم {وَشَرَابِكَ} وكان عصير العنب أو اللبن، والأول: إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق، والثاني: إشارة إلى العلم النافع كالشرائع {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعًا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده والناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل ولم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت {وانظر إلى حِمَارِكَ} وهو القالب الحامل للقلب أو لمعنى {وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً} أي دليلًا للناس بعثناك {وانظر إِلَى العظام} من القوى {كَيْفَ نُنشِزُهَا} ونرفعها عن أرض الطبيعة {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} وهو العرفان الذي يكون لباسًا لها، وعبر عنه باللحم لنموه وزيادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال، والمعنى الظاهر ظاهر {فَلَمَّا تَبَيَّنَ} ووضح {لَهُ} ذلك {قَالَ أَعْلَمُ} علمًا مستمرًا {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء} ومن جملته ما كان {قَدِيرٌ} [البقرة: 259] لا يستعصي عليه ولا يعجزه.