فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (27):

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}

{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا} رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أنه عليه الصلاة والسلام رأي وهو في الحديبية والأول أصح أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فلما تأخر ذلك قال على طريق الاعتراض عبد الله بن أبي. وعبد الله بن نفيل. ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت.
وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه، وفي رواية أن رؤياه صلى الله عليه وسلم أنما كانت إن ملكًا جاءه فقال له: {لَتَدْخُلُنَّ} إلخ، والمعنى لقد صدقه سبحانه في رؤياه على أنه من باب الحذف والإيصال كما في قولهم: صدقني سن بكره، وتحقيقه أنه تعالى أراه الرؤيا الصادقة.
وقال الراغب: الصدق يكون بالقول ويكون بالفعل وما في الآية صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق سبحانه رؤيته. وفي شرح الكرماني كذب يعتدي إلى مفعولين يقال: كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية، وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين انتهى. وفي البحر صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدًا الحديث وصدقته في الحديث، وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر. وأمر والمشهور ما أشرنا إليه أولًا {بالحق} صفة لمصدر محذوف أي صدقًا ملتبسًا بالحق أي بالفرض الصحيح والحكمة البالغة وهو ظهور حال المتزلزل في الإيمان والراسخ فيه، ولأجل ذلك أخر وقوع الرؤيا إلى العام القابل أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام، وجوز كونه حالًا من الاسم الجليل وكونه حالًا من {رَسُولِهِ} وكونه ظرفًا لغوًا لصدق وكونه قسمًا بالحق الذي هو من أسمائه عز وجل أو بنقيض الباطل، وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} عليه جواب القسم والوقف على {الرءيا} وهو على جميع ما تقدم جواب قسم مقدر والوقف على {الحق} أي والله لتدخلن إلخ، وقوله سبحانه: {إِن شَاء الله} تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد، وبه ينحل ما يقال: إنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق منه سبحانه بالمشيئة، وفي معنى ما ذكر قول ثعلب: استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون.
وفيه تعريض بأن وقوع الدخول من مشيئته تعالى لا من جلادتهم وتدبيرهم، وذكر الخفاجي أنه قد وضع فيه الظاهر موضع الضمير وأصله لتدخلنه لا محالة إلا إن شاء عدم الدخول فهو وعد لهم عدل به عن ظاهره لأجل التعريض بهم والإنكار على المعترضين على الرؤيا فيكون من باب الكناية انتهى.
وقد أجيب عن السؤال بغير ذلك فقيل: الشك راجع إلى المخاطبين، وفيه شيء ستعلمه قريبًا إن شاء الله تعالى؛ وقال الحسين بن الفضل: إن التعليق راجع إلى دخولهم جميعًا وحكى ذلك عن الجبائي، وقيل: إنه ناظر إلى الأمن فهو مقدم من تأخير أي لتدخلنه حال كونكم {ءامِنِينَ} من العدو إن شاء الله. وردهما في الكشف فقال: أما جعله قيد دخولهم بالأسر أو الأمن ففيه أن السؤال بعد باق لأن الدخول المخصوص أيضًا خبر من الله تعالى وهو يناف يالشك، وليس نظير قول يوسف عليه السلام: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف: 99] إذ لا يبعد أن لا يعرف عليه السلام مستقر الأمر من الأمن أو الخوف فأما أن يؤول بأن الشك راجع إلى المخاطبين أو بأنه تعليم، والثاني أولى لأن تغليب الشاكين لا يناسب هذا المساق بل الأمر بالعكس. ودفع وروده على الحسين بأن المراد أنه في معنى ليدخلنه من شاء الله دخوله منكم فكيون كناية عن أن منهم من لا يدخله لأن أجله يمنعه منه فلا يلزم الرجوع لما ذكر.
وقيل: هو حكاية لما قاله ملك الرؤيا له صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب ابن كيسان أو لما قاله هو عليه الصلاة والسلام لأصحابه. ورد صاحب التقريب بأنه كيف يدخل في كلامه تعالى ما ليس منه بدون حكاية. ودفع بأن المراد أن جواب القسم بيان للرؤيا وقائلها في المنام الملك وفي اليقظة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي في حكم المحكي في دقيق النظر كأنه قيل: وهي قول الملك أو الرسول لتدخلن إلخ، وأنت تعلم أن هذا وإن صحح النظم الكريم لا يدفع البعد، وقد اعترض به على ذلك صاحب الكشف لكنه ادعى إن كونه حكاية ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أقل بعدًا من جعله من قول الملك، وقال أبو عبيدة. وقوم من النحاة: {ءانٍ} عنى إذ وجعلوا من ذلك قوله تعالى: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقوله صلى الله عليه وسلم في زيادة القبور: «أنتم السابقون وأنا إن شاء الله بكم لاحقون» والبصريون لا يرتضون ذلك، وقوله تعالى: {مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ} حال كآمنين من الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين من قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ} إلا أن آمنين حال مقارنة وهذا حال مقدرة لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وجوز أن يكون حالًا من ضمير {ءامِنِينَ} والمراد محلقًا بعضكم رأس بعض ومقصرًا آخرون ففي الكلام تقدير أو فيه نسبة ما للجزء إلى الكل، والقرينة عليه أنه لا يجتمع الحلق وهو معروف والتقصير وهو أخذ بعض الشعر فلابد من نسبة كل منهما لبعض منهم، وقوله تعالى: {لاَ تخافون} حال من فاعل {لَتَدْخُلُنَّ} أيضًا لبيان الأمن بعد تمام الحج و{ءامِنِينَ} فيما تقدم لبيان الأمن وقت الدخول فلا تكرار أو حال من الضمير المستتر في {ءامِنِينَ} فإن أريد به معنى آمنين كان حالًا مؤكدة، وإن أريد لا تخافون تبعة في إلحاق أو التقصير ولا نقص ثواب فهو حال مؤسسة، ولا يخفى الحال إذا جعل حالًا من الضمير في {مُحَلّقِينَ} أو {مقصرين}، وجوز أن يكون استئنافًا بيانيًا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فكيف الحال بعد الدخول؟ فقيل: لا تخافون أي بعد الدخول.
واستدل بالآية على أن الحلق غير متعين في النسك بل يجزئ عنه التقصير، وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء.
أخرج الشيخان. وأحمد. وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثًا قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: والمقصرين» وأما في النساء فقد أخرج أبو داود. والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير» والسنة في الحاق أن يبدأ بالجانب الأيمن، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال للحلاق: «هكذا» وأشار بيده إلى جانب الأيمن وإن يبلغ به إلى العظمين» كما قال عطاء.
وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنهما كانا يقولان للحلاق أبدأ بالأيمن وأبلغ بالحلق العظمين، واستدل بالآية أيضًا على أن التقصير بالرأس دون اللحية وسائر شعر البدن إذ الظاهر أن المراد ومقصرين رؤسكم أي شعرها لظهور أن الرؤس أنفسها لا تقصر {فَعَلِمَ مَا لَمْ} الظاهر عطفه على {عَلِيمًا لَّقَدْ صَدَقَ} فالترتيب باعتبار التعلق الفعلي بالمعلوم أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية لتقديم ما يشهد للصدق علمًا فعليًا، وقيل: الفاء للتركيب الذكري {فَجَعَلَ} لأجل هذا العلم {مِن دُونِ ذَلِكَ} أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام آمنين إلخ، وقيل: أي من دون فتح مكة، والأول أظهر، وهذا أنسب بقوله تعالى: {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر كما قال ابن زيد.
وغيره، والمراد بجعله وعده تعالى وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا وتستروح قلوب المؤمنين إلى تيسر وقوعها.
وقال في الكشاف: {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، وفيه أمران. الأول: أن فتح مكة لم يقع في العام الذي قاله بل في السنة الثامنة، والتجوز في العام القابل أو تأويل الفتح بدخول المؤمنين مكة معتمرين لا يخفى حاله. الثاني: إباء الفاء عما ذكر لأن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعًا.
وأجيب عن هذا بالتزام كون الفاء للترتيب الذكري أو كون المراد فأظهر معلومه لكم وهو الحكمة فتدبر.
ونقل عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الفتح القريب في الآية هو بيعة الرضوان، وقال مجاهد. وابن إسحق: هو فتح الحديبية، ومن الغريب ما قيل: إن المراد به فتح مكة مع أنه لم يكن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه دون مكة على أنه مناف للسياق كما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (28):

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي ملتبسًا به على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من المفعول، والتباسه بالهدي عنى أنه هاد، وقيل: أي مصاحبًا للهدي، والمراد به الدليل الواضح والحجة الساطعة أو القرآن، وجوز أن تكون الباء للسببية أو للتعليل وهما متقاربان، والجار والمجرور متعلق بأرسل أي أرسله بسبب الهدي أو لأجله {وَدِينِ الحق} وبدين الإسلام، والظاهر أن المراد به ما يعم الأصول والفروع، وجوز أن يراد بالهدي الأصول وبدين الحق الفروع فإن من الرسل عليهم السلام من لم يرسل بالفروع وإنما أرسل بالأصول وتبيانها، والظاهر أن المراد بالحق نقيض الباطل، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي ودين الله الحق، وجوز الإمام غير ذلك أيضًا {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده أي ما يدان به من الشرائع والملل فيشمل الحق والباطل، وأصل الإظهار جعل الشيء على الظهر فلذا كني به عن الإعلاء وعن جعله باديًا للرائي ثم شاع في ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وإظهاره على الحق بنسخ بعض أحكامه المتبدلة بتبدل الاعصار، وعلى الباطل ببيان بطلانه، وجوز غير واحد ولعله الأظهر بحسب المقام أن يكون إظهاره على الدين بتسليط المسلمين على جميع أهل الأديان وقالوا: ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكر زمانًا معتدًا به كما لا يخفى على الواقفين على كتب التواريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الإعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي رضي الله تعالى عنه حيث لا يبقى حينئذ دين سوى الإسلام، ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر إما لنحو ما سمعت وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء، وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة {وكفى بالله شَهِيدًا} على أن ما عده عز وجل من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح كائن لا محالة أو كفى بالله شهيدًا على رسالته صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام ادعاها وأظهر الله تعالى المعجزة على يده وذلك شهادة منه تعالى عليها، واقتصر على هذا الوجه الرازي وجعل ذلك تسلية عما وقع من سهيل بن عمرو إذ لم يرض بكتابة محمد رسول الله وقال ما قال.
وجعل بعض الأفاضل إظهار المعجزة شهادة منه تعالى على تحقق وعده عز وجل أيضًا ولا يظهر إلا بضم إخبار عليه الصلاة والسلام به.

.تفسير الآية رقم (29):

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدي ودين الحق محمد على أن الاسم الشريف خبر مبتدأ محذوف و{رَسُولِ الله} عطف بيان أو نعت أو بدل، والجملة استئناف مبين لقوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [الفتح: 28] وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرًا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء الله تعالى قراءة ابن عامر في رواية {رَّسُولٍ} بالنصب على المدح، وقوله تعالى: {والذين مَعَهُ} مبتدأ خبره قوله سبحانه: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} وقال أبو حيان: الظاهر أن {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} مبتدأ وخبر والجملة عليه مبنية للمشهود به، أما على كونه الرسالة فظاهر، وأما على كونه محقق الوعد فقيل: لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول الله إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق.
وجوز كون {مُحَمَّدٌ} مبتدأ و{رَّسُولٍ} تابعًا له {والذين مَعَهُ} عطفًا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى: {أَشِدَّاء} إلخ.
وقرأ الحسن {أَشِدَّاء رُحَمَاء} بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال، والعامل فيهما العامل في {مَعَهُ} فيكون الخبر على هذا الوجه جملة {تَرَاهُمْ} الآتي وكذا خبر {الذين} على الوجه الأول، والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهد الحديبية، وقال الجمهور: جميع أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم. و{أَشِدَّاء} جمع شديد و{رُحَمَاء} جمع رحيم، والمعنى أن فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه لو اكتفى بالوصف الأول لرا توهم أن مفعوم القيد غير معتبر فيتوهم الفظاظة والغلظة مطلقًا فدفع بأرداف الوصف الثاني، ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الإخوان، ونحوه قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وعلى هذا قوله:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ** على أنه عند العدو مهيب

وقد بلغ كما روى عن الحسن من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدان وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء. أخرج أبو داود عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدًا الله واستغفراه غفر لهما» وفي رواية الترمذي «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان ألا غفر لهما قبل أن يتفرقان».
وفي الأذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء وأما ما اعتاده الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها، وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة، وأطال الشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره الكلام في ذلك، وأما المانقة فقال الزمخشري: كرهها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذلك التقبيل قال: لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئًا من جسده، ورخص أبو يوسف عليه الرحمة المعانقة؛ ويؤيد ما روى عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: «سمعت رجلًا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا قال: أياخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم» وفي الأذكار التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، وللأمرد الحسن حرام بكل حال.
أخرج الترمذي وحسنه عن عائشة قالت: قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله، وزاد رزين في حديث أنس السابق بعد قوله: ويقبله قال: «لا إلا أن يأتي من سفره» وروى أبو داود سئل أبو ذكر هل كان صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى فاتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود، وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف؛ وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين. وقد أخرج ابن أبي شيبة. وأبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعًا «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا» وإخراجًا هما. وأحمد. وابن حبان. والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في «فتاويه» الحديثية فليراجع. وقرأ يحيى بن يعمر {أشدا} بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله:
لا بد من صنعًا وإن طال السفر

وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} خبر آخر للدين أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من تتأتى منه، و{رُكَّعًا سُجَّدًا} حال من المفعول، والمراد تراهم مصلين، والتعير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل، والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي، ومن هنا قال في البحر: هذا دليل على كثرة الصلاة منهم {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ الله وَرِضْوَانًا} أي ثوابًا ورضا، والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول {تَرَاهُمْ} أو من المستتر في {رُكَّعًا سُجَّدًا} أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل: ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: يبتغون فضلًا إلخ.
وقرأ عمرو بن عبيد {وَرِضْوَانًا} بضم الراء {سيماهم} أي علامتهم وقرئ {سيمياؤهم} بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا ** له سيمياء لا تشق على البصر

وجاء سيما بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ} أي في جباههم أو هي على ظاهرها، وقوله سبحانه: {مّنْ أَثَرِ السجود} حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرًا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود، ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود، وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي وثفتة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك رضي الله تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ، وما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تعلبوا صوركم» أي لا تمسوها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر، وقول ابن عمر وقد رأى رجلًا بأنفه أثر السجود: أن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تسن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذاك محض رياء ونفاق يستعاذ بالله تعالى منه، والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصًا لوجه الله عز وجل، وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك.
أخرج الطبراني. والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال: لقد أفسد هذا وجهه إما والله ما هي السيما التي سمي الله تعالى ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عيني، ورا يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدًا لذلك فنفى أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمي الله تعالى، ونظيره ما حكى عن بعض المتقدمين قال: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت إلا رؤس أم خشنت الأرض.
وأخرج ابن جرير. وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: هذه السيما ندى الطهور وتراب الأرض، وروى نحوه عن سعيد بن المسبب. وأخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد. وابن جرير عن مجاهد أنه قال: ليس له أثر في الوجه ولكنه الخشوع، وفي رواية هي الخشوع والتواضع، وقال منصور: سألت مجاهدًا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل قال: لا وقد يكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبًا من الحجارة، وقيل: هي صفرة الوجه من سهر الليل وروى ذلك عن عكرمة. والضحاك، وروى السلمي عن عبد العزيز المكي ليس ذاك هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجي أو حبشي، وقال عطاء: والربيع بن أنس: هو حسن يعتري وجوه المصلين، وأخرج ابن المنذر. وابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: السمت الحسن، وعن بعضهم ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم ناجاة سيدهم، والذاهبون إلى هذه الأقوال قائلون: إن المراد علامتهم في وجوههم وهم في الدنيا، وقال غير واحد: هذه السيما في الآخرة، أخرج البخاري في تاريخه. وابن نصر عن ابن عباس أنه قال في الآية: بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج ابن نصر. وعبد بن حميد. وابن جرير عن الحسن مثله، وأخرجوا عن عطية العوفي قال: موضع السجود أشد وجوههم بياضًا، وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير. وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} النور يوم القيامة» ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. وقرأ ابن هرمز {أَثَرِ} بكسر الهمزة وسكون الثاء وهو لغة في أثر. وقرأ قتادة من {ءاثار} بالجمع {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة؛ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته في الفضل، وقيل: البعد باعتبار المبتدأ أعني {أَشِدَّاء} ولو قيل هذا لتوهم أن المشار إليه هو النعت الأخير أعني {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} وهومبتدأ خبره قوله تعالى: {مّثْلُهُمْ} أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، وقوله سبحانه وتعالى: {فِي التوراة} حال من {مّثْلُهُمْ} والعامل معنى الإشارة؛ وقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} عطف على {مّثْلُهُمْ} الأول كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير {مّثْلُهُمْ} لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها، وقرئ {الإنجيل} بفتح الهمزة، وقوله عز وجل: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ} إلخ تمثيل مستأنف أي هم أو مثلهم كزرع إلخ فالوقف على {أَهْلُ الإنجيل} وهذا مروي عن مجاهد، وقيل: {مّثْلُهُمْ} الثاني مبتدأ وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ} إلخ خبره فالوقف على {التوراة} وهذا مروي عن الضحاك. وأبي حاتم. وقتادة، وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى: {كَزَرْعٍ} إلخ كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] فعلى الأول والثالث {مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} [الفتح: 92] شيء واحد إلا أنه على الأول {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} إلخ، وعلى الثالث {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} إلخ وعلى الثاني {مَثَلُهُمْ فِي التوراة} شيء وهو {أَشِدَّاء} إلخ ومثلهم في الإنجيل شيء آخر وهو {كَزَرْعٍ} إلخ.
واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الإشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتًا لاسم الإشارة نحو {ذلك الكتاب} [البقرة: 2]، وفيه أن الحصر ممنوع، والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه؛ وجمعه كما قال الراغب أشطاء، وقال قطرب: شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، وقال الكسائي. والأخفش: طرفه، وأنشدوا:
أخرج الشطء على وجه الثرى ** ومن الأشجار أفنان الثمر

وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير، وقال صاحب اللوامح: شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما، وفي البحر اشطأ الزرع افرخ والشجرة أخرجت غصونها.
وفي القاموس الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه، جمعه شطوء، وشطأ كمنح شطأ وشطوأ أخرجها، ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه أشطاء، وأشطأ اخرجها اه، وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل.
وقرأ ابن كثير. وابن ذكوان {شَطْأَهُ} بفتح الطاء. وقرأ أبو حيوة. وابن أبي عبلة. وعيسى الكوفي كذلك وبالمد. وقرأ زيد بن علي كذلك أيضًا وبالف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصورًا وإن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفًا كما قالوا في المرأة والكمأة المراة والكماة، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه، وقرأ أبوجعفر {شطه} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء، ورويت عن شيبة. ونافع. والجحدري، وعن الجحدري أيضًا {شطوه} بإسكان الطاء وواو بعدها، قال أبو الفتح: هي لغة أو بدل من الهمزة {شَطْأَهُ فَازَرَهُ} أي أعانه وقواه قاله الحسن.
وغيره، قال الراغب: وأصله من شد الإزار يقال: أزرته أي شددت إزاره ويقال: آزرت البناء وأزرته قويت أسافله، وتأزر النبات طال وقوي.
وذكر غير واحد أنه اما من المؤازرة عنى المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة. وفي البحر {ءازَرَ} أفعل كما حكى عن الأخش، وقول مجاهد. وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه ألا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر.
وتعقب بأن هذه شهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير، مع أن السرقسطي نقله عن المازني لكنه قال: يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه، وأنشد لامرئ القيس:
بمحنية قد آزر الضال نبتها ** بحر جيوش غانمين وخيب

وجعل ما في الآية من ذلك، وهو مروي أيضًا عن السدي قال: آزره صار مثل الأصل في الطول، والجمهور على ما نقل أولًا، والضمير المرفوع في {آزره} للشطء والمنصوب للزرع أي فقوي ذلك الشطء الزرع، والظاهر أن الإسناد في {أَخْرَجَ} مجازي وكون ذلك من الإسناد إلى الموجب، وهو حقيقة على ما ذهب إليه السالكوتي في «حواشيه» على المطول حيث قال في قولهم: سرتني رؤيتك. هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند الرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخفى حاله. وقرأ ابن ذكوان {شَطْأَهُ فَازَرَهُ} ثلاثيًا. وقرئ {فَازَرَهُ} بشد الزاي أي فشد أزره وقواه {فاستغلظ} فصار من الدقة إلى الغلظ، وهو من باب استنوق الجمل، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه، وأوثر الأول لأن المساق ينبئ عن التدرج {فاستوى على سُوقِهِ} فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور. وقرأ ابن كثير {سُوقِهِ} بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة، قيل: وهي لغة ضعيفة، ومن ذلك قوله:
أحب المؤقدين إلى موسى

{يُعْجِبُ الزراع} بوقته وكثافته وغلظه وحسن منظره، والجملة في موضع الحال أي معجبًا لهم، وخصهم تعالى بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهوأحرى أن يعجب غيرهم، وهنا تم المثل وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة رضي الله تعالى عنهم قلوا في بدء ازسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يومًا فيومًا بحيث أعجب الناس، وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير. وابن المنذر، عن الضحاك. وابن جرير. وعبد بن حميد عن قتادة، وذكرًا عنه قال أيضًا: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي الكشاف هو مثل ضربه الله تعالى لبدء ملة الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها، وظاهره أن الزرع هو النبي صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون مثلًا له عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكل وجهة، وروي الثاني عن الواقدي، وفي خبر أخرجه ابن جرير.
وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه.
وقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفر} علة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعالى لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل، وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك، وقيل: علة لما بعده من قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك، وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر على كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز وجل بعيد، وضمير {مِنْهُمْ} لمن عاد عليه الضمائر السابقة، و{مِنْ} للبيان مثلها في قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان} [الحج: 30] وليس مجيئها كذلك مخصوصًا بما إذا كانت داخلة على ظاهره كما توهم صاحب التحفة الإثني عشرية في الكلام على قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] فقال: حمل {مِنْ} للبيان إذا كان داخلًا على الضمير مخالف لاستعمال العرب، وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال: لو ادعى هذا الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد.
ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} [الفتح: 25] عند القائلين بأن ضمير {تَزَيَّلُواْ} للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم، فإن مدحهم الساق بما يدل على الاستمرار التجدي كقوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} ووصفهم ايدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه: {والذين مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكفار} يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين، ويزيد زعمهم هذا سقوطًا عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السموات والأرض، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم، وإذا قلنا: إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به {الذين مَعَهُ} لاسيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعالى وجهه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكيف يكون ذاك ارتدادًا والله عز وجل حين رضي عنهم علم أنهم يفعلونه، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقًا لأجلها خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما نفي، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلًا كالارتداد والعياذ بالله تعالى، وبالجملة جعل {مِنْ} للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة.
وفي التحفة الإثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نورًا على نور، ويا سبحان الله أين جعل {مِنْ} للتبعيض من دعوى الارتداد، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، وتأخير {مِنْهُمْ} هنا عن {عَمِلُواْ الصالحات} وتقديم {مّنكُمْ} عليه في آية النور التي ذكرناها آنفًا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم، وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفًا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق، وقال ابن جرير: «منهم» يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده.
هذا وفي «المواهب» أن الإمام مالكًا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء انتهى. وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم، وفي كلام عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إليه أيضًا، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} قالت: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عكرمة أنه قال: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} بأبي بكر {فَازَرَهُ} بعمر {فاستغلظ} بعثمان {فاستوى على سُوقِهِ} بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وأخرج ابن مردويه. والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة. والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّاء عَلَى الكفار} عمر {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} عثمان {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} على كرم الله تعالى وجهه {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ الله وَرِضْوَانًا} طلحة والزبير {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} عبد الرحمن بن عوف.
وسعد بن أبي وقاص. وأبو عبيدة بن الجراح {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ} بأبي بكر {فاستغلظ} بعمر {فاستوى على سُوقِهِ} بعثمان {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} بعلي كرم الله تعالى وجهه {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه. والخطيب. وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضًا في قوله تعالى: {كَزَرْعٍ قَالَ أَصْلِ الزرع عَبْدُ *كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} محمد صلى الله عليه وسلم {فَازَرَهُ} بأبي بكر {فاستغلظ} بعمر {فاستوى على سُوقِهِ} بعثمان {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} بعلي رضي الله تعالى عنه، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من شطأه أو في من حظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضًا، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل، فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ومن باب الاشارة في بعض الآيات: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1] يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بادخال الأعيان الثابتة ظاهره بنور الوجود فيها أي اظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام {لَكَ} للتعليل، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يروونه من قوله سبحانه: {لولاك لولاك ما خلقت إلا فلان} وقيل: يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلى الله عليه وسلم {أمثالكم إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإثبات جميع حسنات العالم في صحيفتك إذ كنت العلة في إظهاره {وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] بدعوة الخلق على وجه الجمع والفرق {وَيَنصُرَكَ الله} على النفوس الأمارة ممن تدعوهم إلى الحق {نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] قلما يشبهه نصر، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعًا، وكان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته على الصلاة والسلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأزواجهم، والمراد ليجمع لك هذه الأمور فلا تغفل {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} فسروها بشيء يجمع نورًا وقوة وروحًا بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش، وقالوا: لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولى.
{لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} [الفتح: 4] فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني {إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا} على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق، ومن هنا أحاط صلى الله عليه وسلم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة والسلام شاهد خلق جميعهًا، ومن هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام: «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» {وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] إذ كنت أعلم الخلق بصفات الجمال والجلال {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلى الله عليه وسلم وبقائه بالله عز وجل، أيد ذلك بقوله سبحانه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون} المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الامارة {مّنَ الاعراب} من سكان بوادي الطبيعة {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} العوائق والعلائق {فاستغفر لَنَا} اطلب من الله عز وجل ستر ذلك عنا ليتأتى لنا السير {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها:
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ** وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئًا {بَلْ كَانَ الله بما تَعْلَمُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11] فيجازيكم عليها حسا تقتضي الحكمة {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ} بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والانس إلى ما كانوا عليه من ادراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} بالله تعالى وشؤنه عز وجل: {وَكُنتُمْ} في نفس الأمر {قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الاستعداد {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} دعونا نسلك مسلككم لتنال منالكم {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله} حكم وقضى {مِن قَبْلُ} إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة {فَسَيَقُولُونَ} منكرين لذلك {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} ولهذا تمنعوننا عن الاتباع{بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [الفتح: 15] ولذلك نسبوا الحسن وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية {قُلْ لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعراب سَتُدْعَوْنَ} ولا تتركون سدى {إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} وهم النفس وقواها {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم {فَإِن تُطِيعُواْ} الداعي {يُؤْتِكُمُ الله} تعالى: {أَجْرًا حَسَنًا} من أنواع المعارف والتجليات {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16] وهو عذاب الحرمان والحجاب {لَّيْسَ عَلَى الاعمى} وهو من لم ير في الدار غيره ديارًا «حرج» في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك {وَلاَ عَلَى الاعرج} وهو من فقد شيخًا كاملًا سالمًا عن عيب في كيفية التسليك والإيصال {حَرَجٌ} في ترك السلوك أيضًا، وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السوك على يد ناقص {وَلاَ عَلَى المريض} رض العشق والهيام {حَرَجٌ} [الفتح: 17] في ذاك أيضًا لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الانفراد عن الأهل والمال، ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكفار} أعداء الله عز وجل في مقام الفرق {رُحَمَاء فِيمَا بَيْنَهُمْ} لقوة مناسبة بعضهم بعضًا فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال {سيماهم فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} له عز وجل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السيما خلع الأنوار الإلهية، قال عامر بن عبد قيس: كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} سترًا لصفاتهم بصفاته عز وجل: {وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] وهو أن يتجلى سبحانه لهم بأعظم تجلياته وإلا فكل شيء دونه جل جلاله ليس بعظيم، وسبحانه من إله رحيم وملك كريم.