فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (13):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}
{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله:
الناس في عالم التمثيل أكفاء ** أبوهم آدم والأم حواء

وجوز أن يكون المراد هنا أنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبئ عنه ما بعد، وقيل: هو تقرير للأخوة المانعة عن الاغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر.
{وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ والعباس فضيلة؛ وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال:
قبيلة فوقها شعب وبعدهما ** عمارة ثم بطن تلوه فخذ

وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ** ولا سداد لسهم ماله قذذ

وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال:
اقصد الشعب فهو أكثر حي ** عددًا في الحساب ثم القبيلة

ثم يتلوهما العمارة ثم البطن ** ثم الفخذ وبعد الفصيلة

ثم من بعدها العشيرة لكن ** هي في جنب ما ذكرنا قليله

وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه، وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل، وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلًا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية؛ فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل: وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلًا على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي، ومنهم أبو عبيدة وكان خارجيًا وقد ألف كتابًا في مثالب العرب، وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة.
وقيل: الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان، وقال قتادة. ومجاهد. والضحاك: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب، وقيل: الشعوب الموالي والقبائل العرب، وقال أبو روق: الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم {لتعارفوا} علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضًا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان.
وقرأ الأعمش {لتتعارفوا} بتاءين على الأصل، ومجاهد. وابن كثير في رواية. وابن محيصن بإدغام التاء في التاء، وابن عباس. وأبان عن عاصم {وَقَبَائِلَ لتعارفوا} بكسر الراء مضارع عرف، قال ابن جني: والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله:
وما علم الإنسان إلا ليعلما

أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه.
واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض، وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل: إن الأكرم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وقرأ ابن عباس {ءانٍ} بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل: لم لا تتفاخروا بالأنساب؟ فقيل: لأن أكرمكم عند الله تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.
وفي البحر أن ابن عباس قرأ {لتعارفوا وَأَنْ *أَكْرَمَكُمْ} بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ} إلخ معمولًا {لتعارفوا} وتكون اللام في {لتعارفوا} لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى إذ ليس جعلهم شعوبًا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولًا {لتعارفوا} محذوفًا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام أن تكون لام كي اه وهو كما ترى.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكم وبأعمالكم {خَبِيرٌ} بباطن أحوالكم. روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحرث بن هشام. وعتاب بن أسيد وقالا: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت.
وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنك لا تفضل أحدًا إلا في الدين والتقوى ونزلت. وأخرج أبو داود في مراسيله. وابن مردويه. والبيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله تعالى: {رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت: {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} الآية في ذلك، وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلامًا أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال: محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال: هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت، وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم.
وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار. أخرج ابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان. وعبد بن حميد. والترمذي. وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان حجنه فلما خرج لم يجد مناخًا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى} إلى قوله تعالى: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بالمعروف والله بما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأخرج البيهقي. وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فليبلغ الشاهد الغائب، وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بابآئها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه» وأخرج أحمد. وجماعة نحوه لكن ليس فيه {فَمَنْ ءاتاكم} إلخ.
وأخرج البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» وأخرج الطبراني. وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«يقول الله يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون» وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعًا.
وأخرج أحمد. والبخاري في تاريخه. وأبو يعلى. والبغوي. وابن قانع. والطبراني. والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزًا وكبرًا فهو عاشرهم في النار» وأخرج البخاري. والنسائي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه، ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعالى الواحد، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارًا للثواب عند الله عز وجل، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها نكمل النفس وتتفاضل الأشخاص، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط، وبنو إسرائيل أفضل من القبط. وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: قال صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة، فشرف العرب على العجم مثلًا ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الإرب في فضائل العرب، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع، ثم إن أشرف العرب نسبًا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به جمع من الفقهاء. وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم» وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم» ونوزع في صحة ذلك، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن، وتعقب وليس الأمر موقوفًا على ما ذكر لظهور دليله. وقد أخرج أحمد. والحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه قال: قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وأن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري» وحديث بضعية فاطمة رضي الله تعالى عنها مخرج في صحيح البخاري أيضًا، قال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلى الله عليه وسلم، وهذا غاية الشرف لأولادها، وعدم انقطاع نسبه صلى الله عليه وسلم جاء أيضًا في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعًا بلفظ «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» والذهبي وإن تعقبه بقوله: فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن، ويعلم مما ذكر ونحوه كما قال المناوي عظيم نفع الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئًا حرصًا على إرشادهم وتحذيرًا لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا أغني عنكم من الله شيئًا» والمراد لا أغنى عنكم شيئًا جرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًا إلا بتمليك الله تعالى، والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف.
فعلى هذا لا بأس بقول الرجل: أنا من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية. وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرًا واحتقار مسلم، وعلى ما ذكرناه أولًا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».
إلى غير ذلك، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلًا عن التقوى ويدنسه تابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورا ينكر نسبه. وعليه قيل لشريف سيء الأفعال:
قال النبي مقال صدق لم يزل ** يحلو لدى الأسماع والأفواه

إن فاتكم أصل امرئ ففعاله ** تنبيكم عن أصله المتناهي

وأراك تسفر عن فعال لم تزل ** بين الأنام عديمة الأشباه

وتقول إني من سلالة أحمد ** أفأنت تصدق أم رسول الله

ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذٍ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب راحل، كما يحكي أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه كان فاسقًا ظاهر الفسق وكان هناك موسى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يومًا من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر أنا ابن كافر ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت؛ وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك، ولهذا ونحو قيل:
ولا ينفع الأصل من هاشم ** إذا كانت النفس من باهلة

أي لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية، فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها، وقيل: بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جدًا حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهليًا وتدخل الجنة فقال: لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي، وقيل:
إذا قيل للكلب يا باهلي ** عوى الكلب من شؤم هذا النسب

ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر، فإن النص أعني «إن العرب بعضهم أكفاء لبعض» لم يفصل مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق؛ وليس كل باهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال: مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس فمتى عدوا الباهلية عارًا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص دارًا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارًا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلامًا، أما جاهلية فأظهر من أن يبرهن عليه، وأما إسلامًا فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك. والثوري. والكرخي من الحنفية، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترط فيها كون الإمام قرشيًا، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي، ولا اعتبار بضرار. وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس، وقال الشافعية: فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيًا من ولد كنانة بن خزيمة، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه السلام في ابنه كنعان: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} [هود: 46] وقوله عليه الصلاة والسلام: «سلمان منا أهل البيت» فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدًا وعلق على جيد الحسناء عقدًا؛ ولا يكتفي جرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال. ويقول: كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، ومن هنا قيل:
واعجب شيء إلى عاقل ** أناس عن الفضل مستأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا ** أشاروا إلى أعظم ناخره

وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري:
أقول لمن غدا في كل وقت ** يباهينا بأسلاف عظام

أتقنع بالعظام وأنت تدري ** بأن الكلب يقنع بالعظام

وما ألطف قوله:
لم يجدك الحسب العالي بغير تقى ** مولاك شيئًا فحاذر واتق الله

وابغ الكرامة في نيل الفخار به ** فأكرم الناس عند الله أتقاها

وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناسًا فاقوهم حسبًا ونسبًا وشرفوهم أمًا وأبًا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد، ولولا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم.