فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (50):

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}
{فَفِرُّواْ إِلَى الله} تفريع على قوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل، والمعنى قل يا محمد: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} لمكان {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ} أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بين كونه منذرًا من الله سبحانه بالمعجزات، أو {مُّبِينٌ} ما يجب أن يحذر عنه.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}
{وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} عطف على الأمر، وهو نهى عن الإشراك صريحًا على نحو وحدوه ولا تشركوا، ومن الأذكار المؤثورة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكرر قوله تعالى: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة، وقيل: إن المراد بقوله تعالى: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} [الذاريات: 50] الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر {وَلاَ تَجْعَلُواْ} إلخ، إفرادًا لأعظم ما يجب أن يفر منه، و{إِنِّي لَكُمْ} إلخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلًا له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري: في الآية: {فانظر إلى} طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر {إِنِّي لَكُمْ} إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضًا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولًا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانيًا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيد أن متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالحا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110]، وقوله سبحانه: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله.

.تفسير الآية رقم (52):

{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}
{كذلك} أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تقدمت عمومًا أو خصوصًا في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه: الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل: {مَا ءاتَيْتُكَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال: الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرًا ومجنونًا، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه بأتى على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي {مَا ءاتَيْتُكَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من رسول إتيانًا مثل إتيانهم {إِلاَّ قَالُواْ الامر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا} النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدرًا على شريطة التفسير لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملًا في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولًا لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحر أو مجنون قولًا مثل ذلك القول لا يجوز أيضًا على تعسفه لمكان {مَا} وضمير قبلهم لقريش أي ما أتي الذين من قبل قريش {مِن رَّسُولٍ} أي رسول من رسل الله تعالى: {إِلاَّ قَالُواْ} في حقه {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، وأو قيل: من الحكاية أي {إِلاَّ قَالُواْ ساحر}، أو {قَالُواْ مَّجْنُونٍ} وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض: ساحر؛ وقال بعض: مجنون، وقال بعض: ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت أو على التفصيل انتهى فلا تغفل.
واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الإمام بقوله: لا تسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضًا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضًا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتي به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد ما أتي الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا إلخ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن حين أرسل إلا زوجته حواء، ولعله أولى مما قيل: إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك، واستشكل أيضًا بأن {إِلاَّ قَالُواْ} يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال: الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا وفيه ما فيه وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين وفيه ما لا يخفى فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعت النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك.

.تفسير الآية رقم (53):

{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)}
{أَتَوْا} تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضًا بهذا القول حتى قالوه جميعًا، وقيل: إنكار للتواصي أي ما تواصوا به.
{بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.

.تفسير الآية رقم (54):

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ لُومٍ (54)}
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدًا في البيان فأبوا إلا إباءًا وعنادًا {فَمَا أَنتَ لُومٍ} على التوالي بعد ما بذلت المجهود وجاوزت في الا بلوغ كل حد معهود.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}
{أَيُّ الذين *قُدِرَ الله تَعَالَى أيمانهم أَوْ المؤمنين المسبحون وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الاولين لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الذاريات: 54] إلخ، قال: أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم قال سبحانه: {وَذَكَرَ} إلخ فنسختها.
وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة. وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ لُومٍ} [الذاريات: 54] لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} فطابت أنفسنا، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى: {وَذَكَرَ} إلخ.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}
{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل: لأن الأمر فيهم مسلم، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها؛ وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم ليس مبعوثًا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة، وقيل: المراد بالجن ما يتناولهم ونه من الاستتار وهم مستترون عن الانس، وقيل: لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق، وقد أشير إليهما بقوله تعالى: {لَهُ الخلق والامر} [الأعراف: 54] ورد بقوله سبحانه: {خالق كُلّ شَيْء} [الأنعام: 102] و{لَهُ الخلق والامر} ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] وأل في الجن والانس على المشهور للاستغراق، واللام قيل: للغاية والعبارة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لاجلها أي لارادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف محقق بالمشاهدة، وأيضًا ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179] يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولًا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيًا بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف، ألا تراهم يقولون للقوى جسمه: هو مخلوق للمصارعة، وللبقر: هي مخلوقة للحرث.
وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك، وأما الإرادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فانهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم، وتعوّق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وهذا معنى مكشوف انتهى.
فتأمل، وقيل: المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، ونحوه ما قيل: المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي، وقيل: المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادًا لي، ويراد بالعبد العبد بالايجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض *إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْدًا} [مريم: 93] لكن قيل عليه: إن عبد عنى صار عبدًا ليس من اللغة في شيء، وقيل: العبادة عنى التوحيد بناءًا على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وعليه قول من قال: لا يدخل النار كافر، أو المراد كما قال الكلبي: إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق، ونقل عن على كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} [البينة: 5] فذكر العبادة المسببة شرعًا عن الأمر أو اللازمة له، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لاسيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذين يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم، وقال مجاهد: إن معنى {لِيَعْبُدُونِ} ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضًا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد، ولعل السر فيه التنبية على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل: وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى، وقد جاء «كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلابد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في منتهى المدارك، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمة: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وكذا قال الزركشي.
والحافظ ابن حجر. وغيرهما: ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلًا لكن يقول: إنه ثابت كشفًا، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل: أل في {الجن والإنس} للعهد، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} [الأعراف: 179] الآية أي بناءًا على أن اللام فيها ليست للعاقبة، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم. وسفيان، وأيد بقوله تعالى قبل: {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن الناس من جعلها للجنس، وقال: يكفي ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنون الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغني الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما ذهب كثير من السلف، والمحدثين وقد سمعت أن منهم من يقسم الإرادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها، وعليه يجوز أن يبقي {الجن والإنس} على شمولها للعاصين، ويقال: إن العبادة مرادة منهم أيضًا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالارادة التفويضية القائل بها المعتزلة.
هذا وإذا أحطت خبرًا بالأقوال في تفسير هذه الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] على تقدير كون الإشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها، ودفعه بعضهم بكون اللام في تكل الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذًا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه: