فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (6):

{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)}
{ذُو مِرَّةٍ} ذو حصافة واستحاكم في العقل كما قال بعضهم، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل: إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوى العقل والرأي {ذُو مِرَّةٍ} من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. وإلا فوصف الملك ثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البدعية، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين، وروى الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال: ذو شدة في أمر الله عز وجل واستشهد له، وحكى الطيبي عنه أنه قال: ذو منظر حسن واستصوبه الطبري، وفي معناه قول مجاهد، ذو خلق حسن: وهو في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوىّ» عنى ذي قوة، وفي الكشف إن المِرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل {فاستوى} أي فاستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادي النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام كما في حديث أخرجه الإمام أحمد. وعبد بن حميد. وجماعة عن ابن مسعود ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا عنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الإعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي الكلام على ما قال الخفاجي: طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل: فهل رآه على صورته الحقيقية: فقيل؟ نعم رآه فاستوى إلخ، وفي «الإرشاد» أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى: {مَا أوحى} باين لكيفة التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل: إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطف على {عِلْمِهِ} على مكعنى علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام، وقيل: استوى عنى ارتفع والعطف على علم، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)}
{وَهُوَ بالافق الاعلى} أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن: هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل {استوى} [النجم: 6]، وقال الفراء. والطبري: إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبريل عليه السلام، وجوز العكس، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين.

.تفسير الآية رقم (8):

{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)}
{ثُمَّ دَنَا} أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم {فتدلى} فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل:
تدلى عليها بين سب وخيطة ** بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

ومن أسجاع ابنة الخس كن حذرًا كالقرلى إن رأى خيرًا تدلى، وإن رأى شرًا تولى فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح، نعم إن جعل عنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه.

.تفسير الآية رقم (9):

{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)}
{فَكَانَ} أي جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي من قسى العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم، والقاب، وكذا القيب. والقاد. والقيد. والقيس المقدار، وقرأ زيد بن علي قاد، وقرئ قيد وقدر، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان، وفسر به هنا قيل: وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابى قوس، وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب، وعن مجاهد. والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضًا فإن هذا على ما قال: الخفاجي إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقًا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معًا ويرمون بهما سهمًا واحدًا فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز، وأيًا ما كان فالمعنى على حذف مضاف أي فكان ذا قاب قوسين ونحوه قوله:
فأدرك أبقاء لعرادة ظلعها ** وقد جعلتني من خزيمة أصبعا

فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبًا منه، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة إلى اعتبار الحذف وليس بذاك {أَوْ أدنى} أي أو أقرب من ذلك، و{أَوْ} للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول: هو قاب قوسين أو أدنى، والمراد إفادة شدة القرب.

.تفسير الآية رقم (10):

{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}
{فأوحى} أي جبريل عليه السلام {إلى عَبْدِهِ} أي عبد الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكرًا لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام، ومنه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بما كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقوله سبحانه: {إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] {مَا أوحى} أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضًا، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] وقال أبو زيد: الضمير المستتر لله عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مروي عن الحسن وهو الأحسن، وقيل: ضمير {أوحى} الأول والثاني لله تعالى، والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى.

.تفسير الآية رقم (11):

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}
{مَا كَذَبَ الفؤاد} أي فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم {مَا رأى} ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله عليه وسلم لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبًا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذبًا فما كذب عنى ما قال الكذب، وقيل: أي {مَا كَذَبَ الفؤاد} البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولًا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر. قرأ أبو رجاء وأبو جعفر. وقتادة. والجحدري. وخالد بن الياس. وهشام عن ابن عامر {مَا كَذَبَ} مشددًا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ} [النجم: 4] أي من عند الله تعالى: {يُوحَى} ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحى وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى: {عِلْمٍ صاحبكم} هذا الوحي من هو على هذه الصفات، وقوله تعالى: {فاستوى} وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه، وقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل، وقوله سبحانه: {فأوحى} أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه: ما أوحى ولم يأت بالضمير تفخيمًا لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن، وأيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدًا إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضًا سديد، ثم قال سبحانه: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل، فهذا نظم سرى مرعى فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وسيأتي ذلك إن شاء الله عز وجل اله وعليه.

.تفسير الآية رقم (12):

{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)}
{أفتمارونه على مَا يرى} أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وعبد الله. وابن عباس. والجحدري. ويعقوب. وابن سعدان. وحمزة والكسائي. وخلف {أفتمارونه} بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال: مريته حقه إذا جحدته، وأنشدوا لذلك قول الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ** لقد مريت أخا ما كان يمريكا

أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدى الفعل بعلى وكان حقه أن يعدي بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم، وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه. والشعبي فيما ذكر شعبة {أفتمارونه} بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم: وهو غلط، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام، وعبر بالمضارع استحضارًا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، وقيل: المراد {أفتمارونه على مَا يرى} من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}
{وَلَقَدْ رَءاهُ} أي رأى النبي جبريل صلى الله عليه وسلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها {نَزْلَةً أخرى} أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مرّ يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر. وقال الحوفي. وابن عطية: إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة، وجوز أبو البقاء كونه منصوبًا على المصدرية لرأي من معناه أي رؤية أخرى وفيه نطر، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء.