فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (80):

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}
{تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} صفة أخرى للقرآن أي منزل، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجومًا من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل.
وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف، وقرئ تنزيلًا بالنصب على نزل تنزيلًا.

.تفسير الآية رقم (81):

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)}
{أفبهذا الحديث} أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به، وأصل الإدهان كما قيل: جعل الأديم ونحوه مدهونًا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينًا لينًا محسوسًا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له، ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا مجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية، ولذا تجوز به هنا عن التهاون أيضًا لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه، وعن ابن عباس. والزجاج {مُّدْهِنُونَ} أي مكذبون، وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون.
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أولى، والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق.
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه: {وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون} [الواقعة: 47، 48] فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل: أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جاذمون وعلى الإصرار عليه عازمون، ولا يخفى بعده، وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبًا إن شاء الله تعالى:

.تفسير الآية رقم (82):

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} شكركم {أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا، أخرج ذلك الإمام أحمد. والترمذي وحسنه. والضياء في المختارة. وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو إما إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن في الكلام مضافًا مقدرًا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة ازدشنوءة ما رزق فلان فلانًا عنى شكره، ونقل عن الكرماني أنه نقل في شرح البخاري أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله هو ما حكاه الهيثم، وفي البحر وغيره أن عليًا كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس قرءا شكركم بدل {رَزَقَكُمُ} وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر، وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ علي كرم الله تعالى وجهه {الواقعة} في الفجر فقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول قائل لِمَ قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى وتجعلون شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب:
تحية بينهم ضرب وجيع

ومنه قول الراجز:
وكان شكر القوم عند المنن ** كي الصحيحات وفقء الأعين

وأكثر الروايات أن قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ} إلخ نزل في القائلين: مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل.
وأخرج مسلم. وابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية {فَلاَ أُقْسِمُ واقع النجوم} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 75:82]».
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وكان ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك- «نزلوا الحجر فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائه شيئًا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلًا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتهم بالنفاق: إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل»، ولعل جمعًا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضًا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء، بل قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله؛ وقد صح ذكره مع الإيمان، أخرج البخاري.
ومسلم. وأبو داود. والنسائي. وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال: و«صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي» والآية على القول بنزولها في قائلين ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر، وقيل: تسميته كفرًا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة.
هذا وقيل: معنى الآية وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به، ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب.
وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه، وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة، وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه، وذلك بأن يقال: إنه عز وجل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه: {تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} [الواقعة: 80] فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا.
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناءًا على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالًا ولا اشتراكًا قال عز قائلًا: أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به، ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلًا فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبًا به مما لا ينتطح فيه كبشان، وهذا لا تمحل فيه، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون {تُكَذّبُونَ} على معنى تكذبون بكونه أي المطر من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أنتم مدهنون أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس.
والزجاج ومن ذلك أنكم {تجعلون} موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من {بِهَا تُكَذّبُونَ} أو من قوله سبحانه: {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم، وحال عطف {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 82] على ما قبله لا يخفى على نبيه، فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم.
وقرأ المفضل عن عاصم {تكذنون} بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه وحاشاه افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر: إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (83):

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)}
{تُكَذّبُونَ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} إلخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى: {نَحْنُ خلقناكم} [الواقعة: 57] إلخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم ولولا للتحضيض بإظهار عجزهم، و{إِذَا} ظرفية، و{الحلقوم} مجرى الطعام؛ وضمير {بَلَغَتِ} للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل، والمراد بها الروح عنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية، وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85] جسم لطيف جدًا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام، وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح، ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر.
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل: المراد به ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل: فلولا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)}
{وَأَنتُمْ} أيها الحاضرون حول صاحبها {حِينَئِذٍ} أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها {تَنظُرُونَ} إلى ما يقاسيه من الغمرات، وقيل: {تَنظُرُونَ} حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك.
وقرأ عيسى حينئذٍ بكسر النون اتباعًا لحركة الهمزة في إذ.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)}
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي المحتضر المفهوم من الكلام {مّنكُمْ} والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم، وقال غير واحد: المراد القرب علمًا وقدرة أي نحن أقرب إليه في كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدّة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئًا ونحن المستولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو لائكة الموت {ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا وقد علمت أن الخطاب للكفار، وقيل: لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الاستدراك من {تنظرون} [الواقعة: 84]؛ والإبصار من البصر بالعين تجوّز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب، وقيل: أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز وجل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرونهم.