فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (7):

{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
{ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقًا للحق وترغيبًا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو نزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الانفاق، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم، وفيه أيضًا ترغيب في الانفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان، وفي الحديث: «يقول ابن آدم: ما لي ما لي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} [الحديد: 5] وعليه ما حكى أنه قيل لاعرابي: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي، ويميل إليه قول القائل:
وما المال والأهلون إلا ودائع ** ولابد يومًا أن ترد الودائع

والآية على ما روى عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل {فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ} حسا أمروا به {لَهُمْ} بسبب ذلك {أَجْرٌ كَبِيرٌ} وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلًا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرًا كبيرًا، وأعيد ذكر الايمان والانفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فالذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير، ووصف بالكبير، وقوله عز وجل:

.تفسير الآية رقم (8):

{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} استئناف قيل: مسوق لتوبيخهم على ترك الايمان حسا أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الانكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الايمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط، ونظيره قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] وقد يتوجه الانكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضًا كما في قوله تعالى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ} [يس: 22] إلخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الايمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ} حال من ضمير {لاَ تُؤْمِنُونَ} مفيدة على ما قيل: لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه، ولام {لّتُؤْمِنُواْ} صلة يدعو وهو يتعدى بها وبإلى أي وأي عذر في ترك الايمان {والرسول يَدْعُوكُمْ} إليه وينبهكم عليه، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه: {وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالايمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعًا وماضيًا، وجوز كونه حالًا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير {تُؤْمِنُونَ} والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة، وأيًا مّا كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر فقوله تعالى: {والرسول يَدْعُوكُمْ} إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي.
وقال البغوي: هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا وعليه لا مجاز والأول اختيار الزمخشري، وتعقبه ابن المنير فقال: لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الايمان به، وروى ذلك عن مجاهد. وعطاء. والكلبي. ومقاتل، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الايمان ونفي أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببًا للالزامهم الايمان به، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن الضمير في {أَخَذَ} إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى: {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدِىَ *فَمَن تَبِعَ هُدَايَ}
[البقرة: 38] إلخ لأن المعنى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} [طه: 123] برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، ويدل على الأول قوله سبحانه: {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ} وعلى الثاني {هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات} [الحديد: 9] إلخ، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل. وعلى النفقة في العسر واليسر. وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى.
ويضعف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه.
والخطاب قال صاحب الكشف: عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الايمان ثم من آمن بعدم الانفاق في سبيله.
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين، وجعل {آمنوا} [الحديد: 7] أمرًا بالثبات على الايمان ودوامه {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ} إلخ على معنى كيف لا تثبتون على الايمان ودواعي ذلك موجودة.
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل، ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه: إن آمنوا إذا كان خطابًا للمتصفين بالايمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرًا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرًا للمتصفين وفيه مافيه، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده: أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل، وقرئ {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ} بالله ورسوله، وقرأ أبو عمرو {وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} بالبناء للمفعول ورفع {ميثاقكم} {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب مّا فهذا موجب لا موجب وراءه، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه، وقال الواحدي: أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه؛ وأيًا مّا كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ} وقال الطبري في ذلك: المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن؛ وقيل: المراد إن كنتم مؤمنين وسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا حمد صلى الله عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الايمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن، وقيل: المراد إن دمتم على الايمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة، والكل كما ترى.
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي، وقال في هذا الشرط: يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى: {يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد.

.تفسير الآية رقم (9):

{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}
{هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ} حسا يعن لكم من المصالح {ءايات بينات} واضحات، والظاهر أن المراد بها آيات القرآن، وقيل: المعجزات {لِيُخْرِجَكُمْ} أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه، أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، وقرئ في السبعة ينزل مضارعًا فبعض ثقل وبعض خفف.
وقرأ الحسن بالوجهين، وقرأ زيد بن علي. والأعمش أنزل ماضيًا {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه، وقرئ في السبعة {لَرَؤُوفٌ} بواوين، وقوله عز وجل:

.تفسير الآية رقم (10):

{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} توبيخ على ترك الانفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولًا على ترك الايمان، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الايمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضًا عذر من الأعذار، و{ءانٍ} مصدرية لا زائدة كما قيل، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر، فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الانفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى: {فِى سَبِيلِ الله} لتشديد التوبيخ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير.
{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف.
وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا، والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الانفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الانفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل: وما لكم في ترك إنفاقها في سبيل تعالى، والحال أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز وجل، وإظهار الاسم الجليل في موقع الاضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة، وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الانفاق بعد بيان أن لهم أجرًا كبيرًا على الإطلاق حثًا لهم على تحري الأفضل، وعطف القتال على الانفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الانفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلًا وقسيم {مَّنْ أَنفَقَ} محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه، والفتح فتح مكة على ما روى عن قتادة. وزيد بن أسلم. ومجاهد وهو المشهور فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاءًا، وقال الشعبي: هو فتح الحديبية وقد مروجه تسميته فتحًا في سورة الفتح، وفي بعض الآثار ما يدل عليه.
أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن مردويه. وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاءًا بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} [الحديد: 10].
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {قَبْلُ} بغير {مِنْ} {أولئك} إشارة إلى من أنفق، والجمع بالنظر إلى معنى {مِنْ} كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والاشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم، ومحله الرفع على الابتداء؛ والخبر قوله تعالى: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرًا.
{مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ} بعد الفتح {وَقُتّلُواْ} وذهب بعضهم إلى أن فاعل {لاَ يَسْتَوِى} ضمير يعود على الانفاق أي لا يستوي هو أي الانفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده، و{مَّنْ أَنفَقَ} مبتدأ، وجملة {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ} خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم، ويعلم منه التزامًا التفاوت بين الانفاق قبل الفتح والانفاق بعده، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعًا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينًا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد {وَكُلًا} أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روى عن مجاهد. وقتادة، وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا، وقرأ ابن عامر. وعبد الوارث وكل بالرفع، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله:
وخالد يحمد ساداتنا ** بالحق لا يحمد بالباطل

يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدا، وقالوا: لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة، وقول بعضهم: فيها إن كل خبر مبتدا تقديره، وأولئك كل، وجملة {وَعَدَ الله} صفة كل تأويل ركيك، وفيه زيادة حذف، على أن بعض النحاة منع وصف كل بالجملة لأنه معرفة بتقدير وكلهم، وقال الشهاب: الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر في غير كل وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الاجماع وهو محل نزاع.
{والله بما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد، وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناءًا على الخلاف السابق، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم، فلذلك قال: {أولئك} ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد أمنّ علي بصحبته من أبي بكر» وذلك يكفي لنزولها فيه، وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: «ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» قال الطيبي: الحديث من رواية البخاري. ومسلم. وأبي داود. والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدًا أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ} [الأنعام: 30] الآية وإلا فقد قيل: إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولابد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة.
وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقًا بناءًا على ما قالوا: إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب الكشف، واستشكل أمر الخطاب، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ خطاب الله تعالى الأزلي لكن في بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة.
أخرج أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعو لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبًا ما بلغتم أعمالهم» ثم في هذا الحديث تأييد مّا لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل، قال الجلال المحلي: كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة السابين، وقال: نزلهم صلى الله عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر؛ وقوله تعالى: