فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (5):

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}
{إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه، وقيل: إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما من المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها، والأول أظهر، وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد، وقال ناصر الدين البيضاوي: أو يضعون أو يختارون حدودًا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور.
قال الملوى شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورًا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون، والله تعالى المستعان على ما يصفون اه، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله: وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولكن أين من يعقل؟ا انتهى.
وليتني رأيت هذه الرسالة وقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به إياك أن تقول في مجلسنا: المسألة شرعا كذا، وقد أصابني منه عامله الله بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى، واتفق أن قال لي بعض خاصته يومًا: أرى ثلثي الشرع شرًا، فقلت له وإن كنت عالمًا أن في أذنيه وقرًا: نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين؛ فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الإشارة، والذي ينبغي أن يقال في ذلك: إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن السارع حد خصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعاذير، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في «شرح المنهاج»، والقواعد لا تأباه، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط، وقد شاهدنا في في العراق مما يسمونه «جزاءًا» ما القتل أهون منه بكثير.
ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير.
وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق. ورجم الزاني المحصن. وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهن إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي.
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقًا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعًا» ولا نسميه «قانونًا» و«أصولًا» وإن لم يكن موافقًا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشتة لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز وجل.
وأما ما يتعلق بحق بين المال في الأراض فما كان موافقًا لعمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفًا لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرًا إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلًا على ما ذكره أبو يوسف في «كتاب الخراج» وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصًا عليه فإن كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصًا لها به، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول: وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلهًا، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها، ويقول كلما ذكرها: الأصول المستحسنة، وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة قتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيًا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر المسائل، والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعًا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلمًا فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاء العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك من المحادّة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام، ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي، والذي يستوفيه الإمام هو حق الله تعالى للمصلحة، وفي «كتاب الخراج» للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضًا؛ ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصًا أو عمومًا، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصًا عليه بخصوصه، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادمًا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغًا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي: إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كائمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم، ثم إن الآية على ما في البحر نزلت في كفار قريش {كُبِتُواْ} أي أخزوا كما قال قتادة، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين كما قال ابن زيد أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة. والأخفش.
وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال، والأصل كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم، وقال السدى: لعنوا، وقيل: الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق، وقيل: إلى ما كان يوم بدر، وقيل: معنى {كُبِتُواْ} سيكبتون على طريقة قوله تعالى: {اتِى أَمْرِ الله} [النحل: 1] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم.
{كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام {وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات} حال من واو {كُبِتُواْ} أي كبتوا لمحادّتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، وقيل: آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به {وللكافرين} أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولًا أوليًا {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم.

.تفسير الآية رقم (6):

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بما عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله} منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو هين أو باضمار اذكر أي أذكر ذلك اليوم تعظيمًا له وتهويلًا، وقيل: منصوب بيكون مضمرًا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟ فقيل له: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} أي يكون يوم إلخ، وقيل: بالكافرين وليس بشيء، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} حال جيء به للتأكيد، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد {فَيُنَبّئُهُمْ بما عَمِلُواْ} من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة ايليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلًا لهم وتشهيرًا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم، وقوله تعالى: {أحصاه الله} استئناف وقع جوابًا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل: كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل: أحصاه الله تعالى عددًا ولم يفته سبحانه منه شيء، وقوله تعالى: {وَنَسُوهُ} حينئذ حال من مفعول أحصى باضمار قد أو بدونه، أو قيل: لم ينبئهم بذلك؟ فقيل: أحصاه الله تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير {والله على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ} لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (7):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما.
وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة} إلخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى، و{يَكُونَ} من كان التامة، و{مِنْ} مزيدة، و{نجوى} فاعل وهي مصدر عنى التناجي وهو المسارة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض، أو لأن السر يصان فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء، وقيل: أصل ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى {ثلاثة} أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى، أو يؤول نجوى تناجين فثلاثة صفة للمضاف المقدر، أو لنجوى المؤوّل بما ذكر.
وجوز أن يكون بدلًا أيضًا والتأويل والتقدير المذكوران ليتأتي الاستثناء الآتي من غير تكلف، وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب: إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد، وقد يوصف به فيقال: هو نجوى. وهم نجوى، قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الاسراء: 47] وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل.
وقرأ أبو جعفر. وأبو حيوة. وشيبة ما تكون بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري: على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي، و{مِنْ} فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى، واختار في الكشف الثاني، فقال: هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلًا لفظًا لوجود {مِنْ} ولا معنى لأن المعنى شيء منها، فالتذكير هو الوجه لفظًا. ومعنى، وهو قراءة العامة انتهى، وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير، وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ} [الأنعام: 4] {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} [الحجر: 5] فتأمل، وقوله سبحانه: {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والرابع لإضافته إلى غير مماثلة هنا عنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث أنه عز وجل يطلع أيضًا على نجواهم، وكذا قوله تعالى: {وَلاَ خَمْسَةٍ} أي ولا نجوى خمسة {إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى} أي ولا نجوى أدنى {مّن ذلك} أي مما ذكر كالاثنين والأربعة {وَلاَ أَكْثَرَ} كالستة وما فوقها.
{إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعلم ما يجري بينهم {أَيْنَ مَا كَانُواْ} من الأماكن، ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربًا وبعدًا، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة وجهان: أحدهما أن قومًا من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا والله تعالى معهم يعلم ما يقولون. فالآية تعريض بالواقع على هذا، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة. وحبيب ابني عمرو. وصفوان بن أمية كانوا يومًا يتحدثون فقال: أحدهم أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضًا ولا يعلم بعضًا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالمًا بغير سبب ثابت له مع كل معلوم، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من اعداد أهل النجوى والجالسين في خلو للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهي، وأول عددهم الاثنان فصاعدًا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة، وقال سبحانه: {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} فدل على الاثنين والأربعة، وقال تعالى: {وَلاَ أَكْثَرَ} فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف.
وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالبًا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى: {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرًا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك، ولأنه تعالى وتريحب الوتر انتهى.
وقد يقال: إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبًا، والأليق أن يكون وترًا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى.
وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل عليه قوله لهم: نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلًا لا تتم بدون ثلاثة أشياء: الموضوع.
والمحمول. والحدّ الأوسط بل القضية التي تناجى لها لابد فيها من ثلاثة أجزاء، والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها، وكذا بضرب الحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث أنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلًا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلًا، ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها في التناجي، وكذا عدد الحواس الظاهرة، ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى: {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لابد فيه من اثنين فأكثر، ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترًا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى.
وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارًا، وقال ابن عيسى: كل سرار نجوى، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل.
وقرأ ابن أبي عبلة {ثلاثة} و{خَمْسَةٍ} بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى، أو على تأويل نجوى تناجين ونصبهما من المستكن فيه، وفي مصحف عبد الله إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا وقرأ الحسن. وابن أبي إسحق. والأعمش. وأبو حيوة. وسلام. ويعقوب {وَلاَ أَكْثَرَ} بالرفع قال الزمخشري: على أنه معطوف على محل لا أدنى كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يعتبر {أدنى} مرفوعًا على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء، والجملة التي بعد {إِلا} هي الخبر، أو على العطف على محل {مِن نجوى} أنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، و{أَكْثَرَ} على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورًا بالفتح معطوفًا على لفظ {نجوى} كأنه قيل: ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأن يكون مفتوحًا لأن {لا} لنفي الجنس، وقرأ كل من الحسن.
ويعقوب أيضًا. ومجاهد. والخليل بن أحمد ولا أكبر بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت {ثُمَّ يُنَبّئُهُم بما عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} تفضيحًا لهم وإظهارًا لما يوجب عذابهم.
وقرئ {يُنَبّئُهُمُ} بالتخفيف والهمز، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء.
{أَنَّ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لأن نسبة ذاته المقتضى للعلم إلى الكل على السواء، وقد بدأ الله تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ} إلخ، وختم جل وعلا بالعلم أيضًا حيث قال الله تعالى: {إِنَّ الله} إلخ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز وجل: {رَّابِعُهُمْ} و{سَادِسُهُمْ} و{مَعَهُمْ} أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلًا لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه.