فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (3):

{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)}
{وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا وبرزوا، ويقال أيضًا: جلاهم؛ وفرق بعضهم بين الجلاء والاخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزًا من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح. وأخوه علي بن صالح. وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضى، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الاخرة عَذَابُ النار} استئناف غير متعلق بجواب {لَوْلاَ} أي أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة؛ فليس تمتعهم أيامًا قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة.

.تفسير الآية رقم (4):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}
{ذلك} أي ما نزل بهم وما سينزل: {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} وفعلوا ما فعلوا من القبائح {وَمَن يُشَاقّ الله} وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصادر على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيًا مّا كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائنًا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذًا لهم عقاب شديد.

.تفسير الآية رقم (5):

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}
{مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} هي النخلة مطلقًا على ما قال الحسن. ومجاهد. وابن زيد. وعمرو بن ميمون. والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس. وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو عبيدة. وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان: شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضًا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برنى، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها ليانًا كما في قول امرئ القيس:
سالفة كسحوق الليا ** ن أضرم فيه القويّ السعر

وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها عنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة:
كأن قنودي فوقها عش طائر ** على لينة سوقاء تهفو جنوبها

ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، و{مَا} شرطية منصوبة بقطعتم و{مّن لّينَةٍ} بيان لها، وأنث الضمير في قوله تعالى: {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا} أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء مّا، وجواب الشرط قوله سبحانه: {فَبِإِذْنِ الله} أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله. والأعمش. وزيد بن علي قومًا على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرئ قائمًا اسم فاعل مفذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على التأنيث، وقرئ أصلها بضمتين، وأصله {أُصُولِهَا} فحذفت الواو اكتفاءًا بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف.
{وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} متعلق قدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفًا على قوله تعالى: {بِإِذُنِ الله} وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارًا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف.
قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقًا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسا شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أو نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ا فنزلت الآية {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} إلخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضًا فلتقرير عدم كون القطع فسادًا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذنًا بتساويهما في ذلك.
واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (6):

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}
{وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة وهم بنو النضير و{مَا} موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المقترنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازًا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئًا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيهًا على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، و{أَفَاء} على ما في البحر عنى المضارع أما إذا كانت {مَا} شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصولة فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فإن كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بيانًا لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الأخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} إلخ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري. ومسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى.
وقال الضحاك: كانت له صلى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة. وسهل بن حنيف. والحرث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر الأولين ولم يذكر الحرث، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفًا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعني {مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب:
ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم ** إليك ولولا أنت لم توجف الركب

وقال ابن هشام: {أَوْجَفْتُمْ} حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد قول تميم بن مقبل:
مذ أويد بالبيض الحديث صقالها ** عن الركب أحيانًا إذا الركب أوجفوا

والمآل واحد، و{مِنْ} في قوله تعالى: {مِنْ خَيْلٍ} زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كؤنه قيل فما أوجفتم عليه فردًا من أفراد الخيل أصلا {وَلاَ رِكَابٍ} ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح: راكب لمن كان على فرس. أو حمار ونحوه بل يقال: فارس ونحوه، وإن كان ذلك عامًا لغيره وضعا. وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بن النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان على حمار. أو على جمل كما تقدم لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدًّا منها، وكان المراد إن ما حصل لم يحصل شقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم يعط صلى الله عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل: {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطًا خاصًا، وقد سلط رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء تسليطًا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها مفوضًا إليه صلى الله عليه وسلم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل: الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به.

.تفسير الآية رقم (7):

{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
{مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحق الزخري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه. والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري. ومسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشئ مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلًا يقول: قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم؟ فقيل: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} إلخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم، وفرقوا بينهما قالوا: الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفًا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة، وما لمرتد قتل أو مات على ردته، وذمي. أو معاهد. أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور.
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضًا نقلًا عن المغرب وغيره فقالوا: الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة، والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالهم؛ ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالًا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة للمسلمين محتجًا بها على الزبير. وبلال. وسلمان الفارسي. وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه، ووافقه على ما أراد على. وعثمان. وطلحة. والأكثرون بل المخالفون أيضًا بعد أن قال خاطبًا: اللهم اكفنى بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض الشافعية: إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} إلى {ابن السبيل} هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم: لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد، وذكره تعالى كما روي عن ابن عباس.
والحسن بن محمد بن الحنفية افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في الساموات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو العالية: سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته وهو الكعبة المشرفة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك؛ وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع وهو خمس الخمس وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة سنة أي لبعض زوجات ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك وهم أمناء الله تعالى على دينه ولأن الحكم معلق بوصف مشتق وهو الرسول فيكون مبدأ الاشتقاق وهو الرسالة علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا كما سقط الصفى.
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه صالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرًا سعة المال وضيقه، ويقدم الأهم فالأهم وجوبًا، وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: «مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك، وسهم لذي القربى. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس، والمراد بذي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم.
وبنو المطلب لأنه صلى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان. وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبًا عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن وبنو المطلب شيء واحد. وشبك بين أصابعه» رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله عليه وسلم جاهلية ولا إسلامًا، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم حتى كأنهم على قلب رجل واحد قيل: لذي القربى دون لذوي بالجمع.
قال الشافعي: يشترك في هذا الشهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلى الله عليه وسلم العباس وكان غنيًا، بل قيل: كان له عشرون عبدًا يتجرون له، والنساء لأن فاطمة. وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه، ويفضل الذكر كالارث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالإرث، ويثبت كون الرجل هاشميًا أو مطلبيًا بالبينة، وذكر جمع أنه لابد معها من الاستفاضة، ويقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم إن كان أمره أهم من أمرهم.
وقال المزني. والثوري: يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاضي والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بدأ الاشتقاق، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم. وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقًا، وإنما يعطي مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في {اليتامى والمساكين وابن السبيل} لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهمًا مخصوصًا، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم: سهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول: سهم ذوي القربى على ما حكى عن الشافعي، وفائدة ذكره على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلًا لا يستحق شيئًا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافًا كثيرًا؛ ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقًا، وهو رأي علماء أهل البيت، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطي تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلًا.
والكلام مستوفى في شروح الهداية والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية: اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد، ويشترط إسلامه وفقره، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غنى بنفقته في بيت المال، ولابد في ثبوت اليتيم والإسلام والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين.
وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين. وإن اتهما، نعم يظهر في مدعى تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي.
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف وهو شافعي بعد أن اختار جعل {لِلْفُقَرَاء} بدلا من {القربى واليتامى} وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى: {والذين} إلى قوله سبحانه: {والذين ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 9- 10] على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال: إنها للمقاتلين الآن على الأصح، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع، والمرتزقة الأجناد الموصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلى الله عليه وسلم، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين، وكان على ما قال الروياني: يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبًا في قول وندبا في آخر، وقال الغزالي: كان الفيب كله له صلى الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته.
وقال الماوردي: كان له صلى الله عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها، وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: {مَّا أَفَاء الله} إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسومًا على الأقسام الخمسة، وظاهره أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلى الله عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالًا معتدًا به، وأخذت عنوة وقهرًا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسه كذلك والباقي وهو أربعة أخماسه لمن تضمنه قوله تعالى: {والذين} إلى قوله سبحانه: {والذين ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] على ما سمعت سابقًا، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في {مِنْهُمْ} [الحشر: 6] أعني بني النضير، وعدل عن الضمير إلى ذلك على ما في الإرشاد إشعارًا بشمول ما في {مَّا أَفَاء الله} لعقاراتهم أيضًا، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلى الله عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر.
وقال ابن عطية {أَهْلَ القرى} المذكورورن في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها كغيرها، وقيل: المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة. والوطيح. وسلالم. ووخدة، وكان الذي للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهمًا، ونطاة وكانت خمسة أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلى الله عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله ابن عمرو الأنصاري، وروي هذا عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج.
وعن الزهري أنه قال: بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب الخراج والجزية عليهم ردًا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم.
وفي إعادة اللام في الرسول. وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء، وفيه على ما قيل: تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهيهما، ووجه إفراد ذي القربى قد ذكرناه غير بعيد ولما كان أبناء السبيل نزلة الأقارب قيل: {وابن السبيل} بالأفراد كما قيل: {وَلِذِى القربى} وعلى ذلك قوله:
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا ** وكل غريب للغريب نسيب

{كَى لاَ يَكُونَ} تعليل للتقسيم، وضمير {يَكُونَ} لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء {دُولَةً} هي بالضم، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة، وقال الكسائي. وحذاق البصرة: الدولة بالفتح في الملك بالضم، والدولة بالضم في الملك بالكسر، أو بالضم في المال.
وبالفتح في النصرة قيل: وفي الجاه، وقيل: هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف. وبالفتح مصدر عنى التداول، والراغب. وعيسى بن عمر. وكثير أنهما عنى واحد، وجمهور القراء قرأوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم {يَكُونَ} الضمير، و{دُولَةً} الخبر أي كي لا يكون الفيء جدًّا {بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ} أي بينهم خاصة يتكاثرون به، أو كي {لاَ يَكُونَ دُولَةً} وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز، وقيل: المعنى كي لا يكون شيئًا يتداوله الأغنياء خاصة بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدًا من الفقراء.
وقرأ عبد الله تكون بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر. وهشام كذلك؛ ورفع {دُولَةً} بضم الدال على أن كان تامة، و{دُولَةً} فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ عليه. والسلمي كذلك أيضًا، ونصب {دُولَةً} بفتح الدال على أن كان ناقصًا اسمها ما سمعت، و{دُولَةً} خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهمًا، وكذا يجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يسمى فقيرًا، وما اشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام: «الفقر فخري» لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلى الله عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين: لا يقال له صلى الله عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلًا عن طلبها اللازم للترك، وقيل: إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه را يكون دليلًا على القول بأنه لا يعطي أغنياء ذوي القربى، وإنما يعطي فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرًا {وَمَا ءاتاكم الرسول} أي ما أعطاكم من الفيء {فَخُذُوهُ} لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم {وَمَا نهاكم عَنْهُ} أي عن أخذه منه {فانتهوا} عنه {واتقوا الله} في مخالفته عليه الصلاة والسلام {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} فيعاقب من يخالفه صلى الله عليه وسلم، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في العموم، وذلك لعموم لفظ {مَا} على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى: {واتقوا الله} تعميمًا فيتناول كل ما يجب أن يتقي؛ ويدخل ما سيق له الكلام دخولًا أوليًا كدخوله في العموم الأول، وروى ذلك عن ابن جريج.
وأخرج الشيخان. وأبو داود. والترمذي. وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال: «لُعِنَ الله تَعَالَى الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن: فأتته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا}؟ قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، وعن الشافعي أنه قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن محمد بن هرون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: {وَأَمَّا الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا}.
وحدثنا سفيان بن عينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعم» وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور، وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته ككلام ابن مسعود حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضًا، قيل: والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له، قيل: والأول أقرب لأنه لا يقال: أعطاه الأمر عنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرًا ولا نهيًا لا يجب تركه.