فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (8):

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم أي قولوا: ربنا لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه بعد إذ هديتنا إلى معالم الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين، أو التأويل الصحيح، ويؤل المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب في مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الإضلال، وصحة نسبة ذلك إلى الله تعالى على مذهب أهل السنة في أفعال العباد ظاهرة، والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ قلوبنا ولا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا، وإنما دعوا بذلك أو أمروا بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال: ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه وإن شاء أن يزيغه أزاغه» وأخرج الحكيم الترمذيمن طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الإيمان نزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه» والروايات عنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد الإيمان بطروّ الشك مثلًا والعياذ بالله تعالى، وفي كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضًا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول أي رب لا أزنين أي رب لا أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له: أوَ تخاف؟ قال: آمنت حرف القلوب ثلاثًا، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال: «كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال: اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال: يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنا قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا»، وعن أبي أيوب الأنصاري: ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من إيمان.
وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلًا لئلا يلزم انقلاب العلم جهلًا وهو محال والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك، ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر، و{بَعْدَ} منصوب على الظرفية والعامل فيه {تُزِغْ}، و{إِذْ} مضاف إليه وهي متصرفة كما ذكره أجلة النحوين، وأما القول بأنها عنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة، والمعنى بعد هدايتنا فمما ذكره الحوفي في «إعراب القرآن» ولم ير لغيره، والمذكور في النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤل مع ما بعدها بالمصدر نحو:{وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] أي لظلمكم فإن كان أخذ من هذا فهو كماترى، وقرئ لا تزغ بالياء والتاء ورفع {القلوب} {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ} كلا الجارين متعلق بهب وتقديم الأول اعتناءًا به وتشويقًا إلى الثاني، ويجوز تعلق الثاني حذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك، و{مِنْ} لابتداء الغاية المجازية، ولدن ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد وليست مرادفة لعند بل قد تكون عناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكان وهي ملازمة للإضافة فلا تنفك عنها بحال، فتارة تضاف إلى المفرد، وتارة إلى الجملة الإسمية أو الفعلية وقلما تخلو عن من، وفيها لغتان، الإعراب وهي لغة قيس والبناء وهي اللغة المشهورة وسببه شبهها بالحرف في لزوم استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف عند، ولديّ فإنهما لا يلزمان استعمالًا واحدًا إذ يكونان فضلة، وعمدة وغاية وغير غاية، قيل: ولقوة هذا الشبه لا تعرب إذا أضيفت في المشهور واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصان بلدن المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون، وأما بقية لغاتها فإنها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة منها ما تقدم ولدن ولدن بفتح الدال وكسرها ولدن، ولدن بفتح اللام وضمها مع سكون الدال ولدن بفتح اللام وضم الدال وبإبدال الدال تاءًا ساكنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رد النون.
{رَحْمَةً} مفعول لهب وتنوينه للتفخيم، والمراد بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقًا، وقيل: الإنعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق، وفي سؤال ذلك بلفظ الهبة إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول الصريح للتشويق {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول، و{أَنتَ} إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم إن وحذف المعمول لإفادة العموم كما في قولهم: فلان يعطي واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل: لمناسبة رؤوس الآي.

.تفسير الآية رقم (9):

{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس} المكلفين وغيرهم {لِيَوْمِ} أي لحساب يوم، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تهويلًا لما يقع فيه، وقيل: اللام عنى إلى أي جامعهم في القبول إلى يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء، وقيل: الضمير المجرور للحكم أي لا ريب في هذا الحكم، فالجملة على الأول صفة ليوم، وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا كما قال غير واحد عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسني عندهم، والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة، وقرئ {جَامِعُ الناس} بالتنوين {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب، وقيل: تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للإشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشيء من ذكر اليوم المهيب الهائل، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف؛ وهذا بخلاف ما في آخرة السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الإنعام، وقال الكرخي: الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالًا لفظيًا فقط وما في الآخرة متصل اتصالًا معنويًا ولفظيًا لتقدم لفظ الوعد، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ، قال السفاقسي: وهو الظاهر و{الميعاد} مصدر ميمي عنى الحدث لا عنى الزمان والمكان وهو اللائق فعولية يخلف وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها، واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصي عليه تعالى وإلا يلزم الخلف، وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقًا؛ وقيل: هو إنشاء فلا يلزم محذور في تخلفه، وقيل: ما في الآية ليس محلًا للنزاع لأن الميعاد فيه مصدر عنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد عدم خلف الوعيد لأن الأول مقتضى الكرم كما قال:
وإني إذا أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

واعترض بأن الوعيد الذي هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل قوله تعالى: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} [الأعراف: 44] وأجيب بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهي على حد {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] واعترض أيضًا بأن كون الخلف في الإيعاد مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على الله تعالى لأنه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين، وأجيب عنه بما تركه أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {الم} [آل عمران: 1] تقدم الكلام عليه، وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن الإشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق، و(ل) إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و(م) إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخر الوجود، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم، وقال بعضهم: إن (ل) ركبت من ألفين أي وضعت بإذاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها فهو اسم من أسمائه تعالى، وأما (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في صورة المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا ترى أن (أ) التي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن {الم} الإشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطأوا في التوحيد ولم يعرفوه على وجهه، ولهذا أردفه سبحانه بقوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا موجود في سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله {الحى} أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته {القيوم} [آل عمران: 2] بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الأزلي الغير المجعول {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد متلبسًا {بالحق} وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير في ذاته {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوحيد الأول الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] {مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ} إلى معالم التوحيد {وَأَنزَلَ الفرقان} وهو التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا {لَّهُ مَقَالِيدُ} تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله الظهور والتجلي بما شاء {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في البعد والحرمان عن حظائر العرفان {والله عَزِيزٌ} قاهر {ذُو انتقام} [آل عمران: 4] شديد قتضى صفاته الجلالية {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ} في أرحام الوجود {كَيْفَ يَشَاء} لأنكم المظاهر لأسمائه والمجلي لذاته {لا إله} في الوجود {إِلاَّ هُوَ العزيز} القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها أبدًا{الحكيم} [آل عمران: 6] الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسا تقتضيه الحكمة {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} متنوعًا في الظهور {مِنْهُ آيات محكمات} أحكمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدًا {هُنَّ أُمُّ الكتاب} والأصل {وَأُخَرُ متشابهات} تحتمل معنيين فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميل عن الحق {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه} لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} الذي يرجع إليه {إِلاَّ الله} ويعلمه الراسخون في العلم الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على {إِلاَّ الله} والوقف على {الراسخون} {وَمَا يَذَّكَّرُ} بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة {إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب} [آل عمران: 7] الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} [آل عمران: 8] المعطي للقوابل حسب القابليات {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس} على اختلاف مراتبهم {لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 9] لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء؛ هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه:

.تفسير الآية رقم (10):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل: وفد نجران، أو اليهود من قريظة والنضير، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مشركو العرب {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تنفعهم، وقرئ بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين {أموالهم} التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح {وَلاَ أولادهم} الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي كما قال شيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب {مِنَ الله} أي من عذابه تعالى فمن لابتداء الغاية كما قال المبرد، وقوله تعالى: {شَيْئًا} نصب على المصدرية أي شيئًا من الإغناء، وجوز أن يكون مفعولًا به لما في {أغنى} من معنى الدفع و{مِنْ} للتبعيض وهي متعلقة حذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالًا، وأن يكون مفعولًا ثانيًا بناءًا على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه، وقال أبو عبيدة: {مِنْ} هنا عنى عند وهو ضعيف، وقال غير واحد: هي بدلية مثلها في قوله:
فليت لنا من ماء زمزم شربة ** مبردة باتت على طهيان

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِي الأرض} [الزخرف: 60] والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة الله تعالى، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته.
وقريب من ذلك قوله تعالى: {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] واعترض بأن أكثر النحاة كما في البحر ينكرون إثبات البدلية لمن مع أن الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} وكذا بما بعد، والوقود بفتح الواو وهي قراءة الجمهور الحطب أي أولئك المتصفون بالكفر المبعدون عن عز الحضور حطب النار التي تسعر به لكفرهم، وقيل: الوقود بالفتح لغة في الوقود بالضم وبه قرأ الحسن مصدر عنى الإيقاد فيقدر حينئذ مضاد أي أهل وقودها والأول هو الصحيح وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره، أو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبرًا لأن، و{هُمْ} يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلًا.