فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (44):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} جملة مستقلة مبينة للأولى، والإيحاء إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون عنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وعنى الإلهام، والضمير في {نُوحِيهِ} عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يشمل ما تقدم من القصص وما لم يتقدم منها بخلاف ما إذا عاد إلى ذلك فإنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرًا عن المبتدأ قبلها، و{مِنْ أَنبَاء الغيب} إما متعلق بنوحيه أو حال من مفعوله أي: نوحيه حال كونه بعض أنباء الغيب وجعله حالًا من المبتدأ رأي البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير: الأمر ذلك فيكون {ذلك} خبرًا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل. وصيغة الاستقبال عند قوم للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الأخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم نكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاءًا لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضًا لما أن {تِلْكَ} هي المقصودة بالأخبار أولًا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدًا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد.
{إِذْ يُلْقُون أقلامهم} أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع، والأقلام جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة واختاروها تبركًا بها، وقيل: هي السهام من النشاب وهي القداح، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم عنى القطع، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي وفي عدة الأقلام خلاف وعن الباقر أنها كانت ستة، والظرف معمول للاستقرار العامل في {لَدَيْهِمْ} وجعله ظرفًا لكان كما قال أبو البقاء ليس بشيء {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} من تتمة الكلام الأول، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى، ولما لم يصلح {يُلْقُون} للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجلّ له ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقدر: ينظرون أيهم يكفل وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية كما صرح به ابن الحاجب، وابن مالك في التسهيل وثانيها: أن يقدر: ليعلموا أيهم يكفل وعلى الأول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام، وثالثها: أن يقدر يقولون، أو ليقولوا أيهم واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع {أَيُّهُم} وأجيب بأنه مفيد، وينساق المعنى إليه بناءًا على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين، واعترض أيضًا تقدير القول مقرونًا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له، وأجيب بتأويله كما أول في سابقه، وقيل: يؤل بالحكم أي: ليقولوا وليحكموا أيهم إلخ، والسكاكي يقدر هاهنا ينظرون ليعلموا، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر، أو العلم يغني عن الآخر، وبعض المحققين لم يقدر شيئًا أصلًا وجعل {أَيُّهُم} بدلًا عن ضمير الجمع أي يلقي كل من يقصد الكفالة وتتأتى منه، ولا يخفى أنه من التكلف كان.
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في شأنها تنافسًا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي، وقبله في آخر، وتكرير {مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ} مع تحقق المقصود بعطف {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على {إِذْ يُلْقُون} للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلى الله عليه وسلم لاسيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك قاله شيخ الإسلام. واختلف في وقت هذا الإقتراع والتشاح على قولين: أحدهما: وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل، وثانيهما: أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها، وهو قول مرجوح، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه، أليس الله تعالى يقول: {فساهم فَكَانَ مِنَ المدحضين}؟ [الصافات: 141] وقال الباقر رضي الله تعالى عنه: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم}.

.تفسير الآية رقم (45):

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}
{إِذْ قَالَتِ الملئكة} شروع في قصة عيسى عليه السلام، والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على المشهور، والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة، و{إِذْ} المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل، وقيل: بدل اشتمال ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرًا لما سبق وتنبيهًا على استقلاله وكونه حقيقيًا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا: وترك العطف بناءًا على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانًا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبًا باذكر مقدرًا، وأن يكون ظرفًا ليختصمون وقيل: إنه بدل من {إِذْ} المضافة إليه، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة دة فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال: إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلًا والصلح في آخرها، قيل: ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناءًا على ما روي عن الحسن أنها عليها السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.
{الملئكة يامريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} كلمة من لابتداء الغاية مجازًا وهي متعلقة حذوف وقع صفة لكلمة وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلًا: محض الجود وعلى ذلك أكثر المفسرين وأيدوا ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، وقيل: أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة، ففي «التوارة» في الفصل العشرين من السفر الخامس أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران وسينا جبل التجلي لموسى وساعير جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه وفاران جبل مكة، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقًا لما أخبر به: قد جاء كلامي، وقيل: لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته.
ومن الناس من زعم أن الكلمة عنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} [النساء: 171] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازمًا في مثل ذلك، وفي {يُبَشّرُكِ} هنا من القراآت مثل ما فيها فيما تقدم {اسمه} الضمير راجع إلى الكلمة وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره {المسيح} وقوله تعالى: {عِيسَى} يحتمل أن يكون بدلًا، أو عطف بيان، أو توكيدًا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري، أو خبرًا آخر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوبًا بإضمار أعني مدحًا، وحذف المبتدأ والفعل قيل: على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب، وقوله تعالى: {ابن مَرْيَمَ} صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبًا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارًا عن المبتدأ أو رد عليه بأن الاسم في الحقيقة عيسى والمسيح لقب؛ و{ابن} صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرًا عنه؟ا وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقًا وليس هو عنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق، وأن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب، وقيل: المراد بالاسم معناه اللغوي وهو السمة والعلامة المميزة لا العلم.
ولا مانع حينئذٍ من جعل مجموع الثلاثة خبرًا إذ التمييز بذلك أشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا كما في الانتصاف خلاص من إشكال يوردونه فيقولون: {المسيح} في الآية إن أريد به التسمية وهو الظاهر فما موقع {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} والتسمية لا توصف بالنبوة؟ا وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه: {اسمه} ووجه الخلاص ظاهر، ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى: {اسمه} والمراد التسمية، وأما {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو، ويكون الضمير عائدًا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعًا عن {المسيح} والمشهور أن المسيح لقبه عليه السلام وهو له من الألقاب المشرفة كالفاروق، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك، وعن إبراهيم النخعي الصديق، وعن أبي عمرو بن العلاء الملك، وعيسى معرب أيشوع، ومعناه السيد، وعن كثير من السلف أن المسيح مشتق من المسح، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه السلام فقيل: لأنه مسح البركة واليمن، وروي ذلك عن الحسن وابن جبير، وقيل: لأنه كان يمسح عين الأكمه فيبصر، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برئ، ورواه عطاء والضحاك عن ابن عباس، وقال الجبائي: لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء تتمسح به، وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان الرجيم، وقيل: لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام فاستخرج منه ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح وقيل: وقيل.
وهذه الأقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري، وكثير من المحققين على الثاني، واختاره أبو عبيدة، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة في الأسماء الأعجمية، وفي الكشف أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف له عليه السلام كالخليل لإبراهيم، وجعله معربًا ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم عنى الوصف خلاف الظاهر. ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن التوراة والإنجيل والإسكندر لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيًا، نعم قيل في عيسى: إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه السلام لأنه كان في لونه عيس أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر «كأنما خرج من ديماس» إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له، وأن القائل به كالراقم على الماء.
وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعًا وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة، وفرق النخعي بين لقب روح الله وعدوّه بأن الأول: بفتح الميم والتخفيف، والثاني: بكسر الميم وتشديد السين كشرير وأنكره غيره وهو المعروف ثم القائلون باللقبية في الآية وكون عيسى بدلًا مثلًا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاءًا أما إذا كان أشهر كما هنا فإنه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الأنباري ولا يختص بغير الفصيح كما فيما إذا لم يكن كذلك. والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الأول للثاني، وفي «المفصل» تعينها، وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك، ومن جوز التبعية استدل بقولهم: هذا يحيى عينان إذ لو أضيف لقيل عينين، وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم الاستدلال، وكذا لو كانت بالفتح لأنه يمكن حينئذٍ أن يكون اللقب مجرورًا بالإضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناءًا على القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كما لا ينصرف لكن أنت تعلم أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي.
وأما أنه يثبت الاطراد فلا، ولعل المانع إنما يمنع ذلك، ويدعي أن المطرد هو الإضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز فيما إذا قارنت أل الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال: الحرث كرز بالإضافة، وكذا إذا كان اللقب وصفًا في الأصل نحو إبراهيم الخليل على ما نص عليه ابن الحاجب في «شرح المفصل» لأن الموصوف لا يضاف إلى صفته في المشهور.
ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل، وهو مبني على مذهب من يقول: إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضًا وتمام البحث في «كتبنا النحوية» فليفهم، وإنما قيل: {ابن مَرْيَمَ} مع كون الخطاب لها تنبيهًا على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب إليه، وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضًا، وقيل: إن في ذلك ردًا للنصارى، وأبعد من ادعى أن هذه الإضافة لمدح عيسى عليه السلام لأن الكلام حينئذٍ في قوة ابن عابدة، هذا واعلم أن لفظ {ابن} في الآية يكتب بغير همزة بناءًا على وقوعه صفة بين علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعًا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم كزيد ابن السلطان أو تقدمه غير علم، وأضيف إلى علم كالسلطان ابن زيد أو وقع بين ما ليسا علمين كزيد العاقل ابن الأمير عمرو كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور، والكتاب كثيرًا ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع، وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة وغيره. ومن هنا قيل: إن الرسم يرجح التبعية، نعم في كون ذلك مطردًا فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف، والذي أختاره الحذف أيضًا إذا كان ذلك مشهورًا.
{وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة} الوجيه ذو الجاه والشرف والقدر، وقيل: الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته، وقيل: وجاهته في الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل: بسبب أنه كان مبرءًا من العيوب التي افتراها اليهود عليه، وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة عنى الهيئة والبزة ليقال: كيف كان وجيهًا في الدنيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك المعاملة فيه كما لا تقدح على التقادير الأول كما لا يخفى على المتأمل، ونصب {وَجِيهًا} على أنه حال مقدرة من {كَلِمَةَ} وسوغ مجيء الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار المعنى كما أشير إليه وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت بعد البشارة.
ومن الناس من جعل الحال من {عِيسَى} وقال أبو البقاء: لا يجوز ذلك وكذا لا يجوز جعله حالًا من {المسيح} أو من {ابن مَرْيَمَ} لأنها أخبار، والعامل فيها الابتداء، أو المبتدأ أو هما وليس شيء من ذلك يعمل في الحال، وكذا لا يجوز أيضًا أن يكون حالًا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في الحال، والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل {وَمِنَ المقربين} أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة، وقيل: هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة، وقيل: من المقربين من الناس بالقبول والإجابة وهو معطوف على {وَجِيهًا} أي ومقربًا من جملة المقربين.