فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (50):

{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}
{وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: {بِئَايَةٍ} [آل عمران: 49] أي قد جئتكم محتجًا، أو متلبسًا بآية إلخ ومصدقًا لما إلخ، وإما على {رَسُولًا} [آل عمران: 49] وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوبًا بفعل دل عليه {قَدْ جِئْتُكُم} [آل عمران: 49] أي وجئتكم مصدقًا إلخ. وقوله سبحانه: {مِنَ التوراة} في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالًا من ما فيكون العامل فيه {مُصَدّقًا} ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رسولًا طبق ما بشرت به {وَلاِحِلَّ لَكُم} معمول لمقدر بعد الواو أي وجئتكم لأحل فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على {بِئَايَةٍ} من قوله سبحانه: {جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} [آل عمران: 49] لأنه في معنى لأظهر لكم آية ولأحل فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على {مُصَدّقًا} ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول: حالًا، والثاني: مفعولًا له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لابد من تقدير جئتكم فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر.
{بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} أي في شريعة موسى عليه السلام. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهما فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقًا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن الإنجيل لم يخص أحكامًا ولا حوى حلالًا وحرامًا ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئًا مما في التوراة، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الأسبوع ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الإلهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في «إنجيله» أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعًا كبيرًا وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء، وفيها صور الحيوانات وصورة الخنزير وقيل له: يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيًا أو خطأ في الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه، ويزيده بعدًا أنه قرئ حرم بالبناء للفاعل وهو ضمير ما {بَيْنَ يَدَىِ} أو الله تعالى، وقرئ أيضًا حرم بوزن كرم، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام على ما قيل أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان {وَجِئْتُكُمْ بِئَايَةٍ مّن رَبُّكُمْ} الكلام فيه كالكلام في نظيره، وقرئ بآيات {فاتقوا الله} في عدم قبول ما جئتكم به {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (51):

{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
{إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٍ} بيان للآية المأتي بها على معنى: هي قولي: إن الله ربي وربكم. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس إليه كان آية دالة على رسالته، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر، ويقال: إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات. أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال: أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق، وقرئ أن الله بفتح همزة أن على أن المنسبك بدل من {آية} أو أن المعنى: جئتكم بآية دالة على أن الله إلخ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضًا لكن بتقدير القول، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] اعتراضًا، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة عل جملة {جِئْتُكُم} [آل عمران: 49] الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه: {إِنَّ الله رَبّى} أو للاستيعاب كقوله تعالى: {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي: جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالمخفيات، ومن ولادتي بغير أب، ومن كلامي في المهد ونحو ذلك والكلام الأول: لتمهيد الحجة عليهم، والثاني: لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في {فاتقوا الله} [آل عمران: 50] كأنه قيل: لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فاتقوا الله إلخ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {إِنَّ الله} إلخ ابتداء كلام وشروعًا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقوله تعالى: {فاعبدوه} إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر لأن الله ربي وربكم فاعبدوه قوله تعالى: {لإيلاف قُرَيْشٍ} [قريش: 1] إلخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض؛ وجملة {هذا} إلخ على ما قيل: استئناف لبيان المتقضي للدعوة.
هذا والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة: سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَتِ الملئكة} أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية {إِنَّ الله اصطفاك} لكمال استعدادك ووفور قابليتك {وَطَهَّرَكِ} عن الرذائل والأخلاق الردية {واصطفاك على نِسَاء} [آل عمران: 42] النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة {العالمين يامريم اقنتى لِرَبّكِ} أي داومي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى {واسجدى} في مساجد الذل {واركعى} [آل عمران: 43] في محاريب الخدوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال:
ويحسن إظهار التجلد للعدا ** ويقبح إلا العجز عند الحبائب

{ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من أخبار غيب وجودك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يا نبي الروح {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتًا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم {إِذْ يُلْقُون} أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ} ويدبر {مَرْيَمَ} النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها {إِذْ قَالَتِ} ملائكة القوى الروحانية حين غلبت {الملئكة يامريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ} قتضى التوجيه إليه {بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم {اسمه المسيح} لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به {وَجِيهًا فِي الدنيا} لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيهًا في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفًا مرفوعًا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء {وَمِنَ المقربين} [آل عمران: 45] أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات، وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» {وَيُكَلّمُ الناس} بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك {وَكَهْلًا} [آل عمران: 46] بالغًا طور شيخ الروح وواصلًا وسط الطريق {قَالَتْ رَبّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ} مثل هذا {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر.
{قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [آل عمران: 47] فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل جرد الجذبة الإلهية، وهذا أن المرادين وبعض المريدين:
رب شخص تقوده الأقدار ** للمعالي وما لذاك اختيار

غافل والسعادة احتضنته ** وهو عنها مستوحش نفار

{وَيُعَلّمُهُ} [آل عمران: 48] بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الإلهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن؛ {و} يجعله {نَبْعَثَ رَسُولًا} {إلى} الروحانيين من {بَنِى إسراءيل} الروح قائلًا: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} من عالم الغيب {بِئَايَةٍ} عظيمة وهي {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ} بالتربية من طين النفوس البشرية {كَهَيْئَةِ} الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف {فَأَنفُخُ فِيهِ} بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقية {فَيَكُونُ طَيْرًا} أي نفسًا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه: {بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئ الاكمه} أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار {والابرص} المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية {وَأُحْىِ} موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية {بِإِذْنِ الله وَأُنَبّئُكُم بما تَأْكُلُونَ} أي تتناولون من الشهوات واللذات {وَمَا تَدَّخِرُونَ} في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور {لأَيَةً لَّكُمْ} نافعة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]، {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ} توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر {وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين:
ورب جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولا استحل أناس مسلمون دمي ** يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن ** إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

{وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ} بعد أخرى {مّن رَّبّكُمْ فاتقوا الله} في مخالفتي {وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] فيما فيه كمال نشأتكم {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم {فاعبدوه} بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51] يوصلكم إليه ويفدُ كم عليه.