فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (52):

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}
{فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحًا لطرف منها داخلًا تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: {وَرَسُولًا إلى بَنِى إسراءيل} [آل عمران: 49] ولا يكون {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} [آل عمران: 49] متعلقًا بما قبله، ولا يكون داخلًا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولًا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم الآية، والفاء هنا مفصحة ثل القدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الإحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول بأن المراد إحساس آثار الكفر ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه مع العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة.
أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزءون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟ا فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون عليَّ كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبًا» وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه، ومن لابتداء الغاية متعلق بأحس أي ابتدأ الإحساس من جهتهم؛ وجوز أبو البقاء أن يتعلق حذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرًا منهم.
{قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية الصف (14) {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} الآية. وكونه جميع بني إسرائيل لقوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا} [الصف: 14] ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع، والأنصار جمع نصير كالأشراف جمع شريف، وقال قوم: هو جمع نصر، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصري، أو تجعله مصدرًا وصف به، والجار والمجرور إما أن يتعلق حذوف وقع حالًا من الياء وهي مفعول به معنى، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئًا إلى الله تعالى أو ذاهبًا إلى الله، وإما أن يتعلق بأنصاري مضمنًا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، وفي الكشاف في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لابد من تجوز، أو إضمار في نصرهم لله تعالى، ويضمر ما تحصل به المطابقة، نعم كون {إلى} عنى مع لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء إلى آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلًا، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال، ولا تقول: وإليه وكذا نظائره فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الاضمار أولى، و{مِنْ} هنا اختار بعضهم كون إلى عنى اللام، وآخرون كونها عنى في. وقال في الكشف: لعل الأشبه في معنى الآية والله تعالى أعلم أن يحمل على معنى من ينصرني منهيًا نصره إلى الله تعالى كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجًا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} شديد الطباق له كأنهم قالوا: نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه، ولو قالوا مكانه: نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى. وأنت تعلم أن جعل {إلى} عنى اللام، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفًا مما ذكر، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج من أنه لا يجوز أن يقال: إن بعض الحروف من حروف المعاني عنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم، والحواريون جمع حواري يقال: فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره، وليس الحواري جمعًا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون، وذكر العلامة التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب؛ وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به، وبه قرئ في الآية، وأصله من التحوير أي التبييض، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى؛ والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس، ويطلق الحواري على القصار أيضًا لأنه يبيض الثياب وهو بلغة النبط، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله الضحاك واختلف في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم وهو المروي عن سعيد بن جبير وقيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس وهو المروي عن مقاتل وجماعة وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم وإليه يشير كلام قتادة وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضًا فقيل: قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب، وشمعون، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئًا فأمر عيسى عليه السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام، وقيل: هم اثنا عشر رجلًا، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون، وقيل: إن واحدًا من الملوك صنع طعامًا وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فقال الملك: إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون، وقيل: إن أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئًا وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يومًا لمهم وقال له: هاهنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حبًا واحدًا وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: أفسدت على الثياب قال: قم فانظر فكان يخرج ثوبًا أحمر وثوبًا أخضر وثوبًا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين، ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك، وبعضهم من الصيادين، وبعضهم من القصارين، وبعضهم من الصباغين، وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعًا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته.
والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق، ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيًا وإما أن يؤخذ مجازيًا وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار، وقيل: إنه مأخوذ من حار عنى رجع ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الإنشقاق: 14] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى.
ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به؛ وادعاه بعضهم مستدلًا بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى} [الصف: 14] ولا يخفى أن الآية ليست نصًا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك. نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأمورًا بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم كما قاله الحسن ومجاهد ولم يستنصر للقتال معهم على الإيمان بما جاء به، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل را يدعى أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس، وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدًا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام: حسبك ثم أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت، وقيل: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور.
{ءامَنَّا بالله} مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها {واشهد} عطف على {مِنَ} ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل: إن {مِنَ} لإنشاء الإيمان أيضًا فلا اختلاف {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولًا أوليًا نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانًا كما قال الكرخي بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء في المائدة (111) {بِأَنَّنَا} لأن ما فيها كما قيل أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلًا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى.

.تفسير الآية رقم (53):

{رَبَّنَا آَمَنَّا بما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}
{رَبَّنَا ءامَنَّا بما أَنزَلَتْ} عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارًا لسحائب إجابة دعائهم الآتي، وقيل: مبالغة في إظهار أمرهم {واتبعنا الرسول} أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم، وقيل: المراد من {الشاهدين} الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها، وقال مقاتل: هم الصادقون، وقال الزجاج: هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق، وقيل: أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك، وقيل: أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى: {إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ} [المطففين: 81] ولا يخفى ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك، أو في عداد أتباعهم، قيل: وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ {فاكتبنا} إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال، وقيل: المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل. ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة، والظرف متعلق حذوف وقع حالًا من مفعول اكتبنا.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
{وَمَكَرُواْ} أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة {وَمَكَرَ الله} بأن ألقى شبهه عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلًا يقال له يهودا وهو الذي دلهم على عيسى وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورًا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.
وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلًا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فعل وفعل فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقًا عظيمًا، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرًا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز.
هذا وأصل المكر قيل: الشر، ومنه: مكر الليل إذا أظلم، وقيل: الالتفات ومنه المكوّر لضرب من الشجر ذي التفات، واحده مكر، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق، وقالوا: لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداءًا مكر الله سبحانه وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة وخالفهم الأبهري وغيره؛ فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] فإنه نسب إليه سبحانه ابتداءًا. ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة، وقال غير واحد: إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس متنع عليه تعالى، وفي الحديث: «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» ومن ذهب إلى عدم الإطلاق إلا بطريق المشاكلة أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] ولا يخفى ما فيه، فالأولى: القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداءًا بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه: {والله خَيْرُ الماكرين} أي أقواهم مكرًا وأشدهم، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة.