فصل: تفسير الآية رقم (127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (127):

{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مّنَ الذين كَفَرُواْ} متعلق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] وما بينهما تحقيق لحقيته وبيان لكيفية وقوعه، وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن يجعل {إذ تقول} [آل عمران: 124] ظرفًا لنصركم لا بدلًا من {إذ غدوت} [آل عمران: 121] لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد. والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح ذلك في تعليل أصل النصر بالقطع وماعطف عليه، وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله سبحانه: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 126] على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده، وقيل: هو متعلق بنفس الصبر، واعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى، وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر كما في الأول أو النصر المعهود كما في الثاني على ذلك، والقول بأنه متعلق حذوف والتقدير فعل ذلك التدبير، أو أمدكم بالملائكة ليقطع منقطع عن القبول، والقطع الإهلاك، والمراد من الطرف طائفة منهم قيل: ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف لأن أطراف الشيء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته، وقيل: لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} [التوبة: 123] وقيل: للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافًا، ففي الأساس هو من أطراف العرب أي من أشرافها، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم في السير، ومن ذلك قالوا: الأطراف منازل الأشراف فلا يرد أن الوسط أيضًا يشعر بالشرف، فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بقتل وأسر، وقد وقع ذلك في بدر كما قال الحسن والربيع وقتادة، فقد قتل من أولئك سبعون وأسر سبعون، واعتبار ذلك في أحد حيث قتل فيه ثمانية عشر رجلًا من رؤسائهم قول لبعضهم وقد استبعدوه كما أشرنا إليه.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يخزيهم قاله قتادة والربيع ومنه قول ذي الرمة:
لم أنس من شجن لم أنس موقفنا ** في حيرة بين مسرور ومكبوت

وقال الجبائي والكلبي: أي يردهم منهزمين، وقال السدي: أي يلعنهم وأصل الكبت الغيظ والغم المؤثر، وقيل: صرع الشيء على وجهه، وقيل: إن كبته يكون عنى كبده أي أصاب كبده كرآه عنى أصاب رئته، ومنه قوله المتنبي:
لأكبت حاسدًا وأرى عدوا ** كأنهما وداعك والرحيل

والآية محمولة على ذلك، ويؤيد هذا القول أنه قرئ {ويكبدهم} وأو للتنويع دون الترديد لوقوع الأمرين {فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} أي فينهزموا منقطعي الآمال فالخيبة انقطاع الأمل، وفرقوا بينها وبين اليأس بأن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل واليأس يكون بعده وقبله، ونقيض الخيبة الظفر، ونقيض اليأس الرجاء.

.تفسير الآية رقم (128):

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)}
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَيْء} أخرج غير واحد «أن رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية» فنزلت هذه الآية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَيْء} إلخ فتيب عليهم كلهم، وعن الجبائي: أنه صلى الله عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدًا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودًا فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية، وقال محمد بن إسحق والشعبي لما رأى صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير قالوا لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية.
وهذه الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين. وعن مقاتل أنها نزلت في أهل بئر معونة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أربعين وقيل: سبعين رجلًا من قراء أصحابه وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد وجدًا شديدًا وقنت عليهم شهرًا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك، والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل.
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ} عطف إما على {الامر} أو على {شَيْء} بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول: سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة.
وعلى الثاني: سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى، وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام كما قال العلامة الثاني لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة {أَوْ} نظر، وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر عنى الشأن ولك أن تجعله عنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب فليس هناك عطف الخاص على العام، وفيه أن الحمل على التكليف تكلف، والحمل على الشأن أرفع شأنًا.
ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن {أَوْ} عنى إلا أن، والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح أو يعذبهم فتشتفي بهم وأيًا مّا كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث إن كلًا منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه عمن سواه، وقيل: إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه، وقيل: إن قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ} إلخ عطف على {فَيَنقَلِبُواْ} [آل عمران: 127] أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم، أو عطف على {يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران: 127] و{لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَيْء} اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصورين إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من باب أولى وإنما خص الاعتراض وقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة، والمعنى إن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا، وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم.
والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرًا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق وكذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب وأكثر ما يعلل به التعذيب الأخروي، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال: 42] وإن فسر بالأسر مثلًا كان أمر التسبب مكشوفًا لا مرية فيه، واستشكلت هذه الآية بناءًا على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان فعل فعلًا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]، وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرًا إلى منصبه صلى الله عليه وسلم، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناءًا على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاده المأذون به. وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخًا لذلك الإذن وأيًا مّا كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم.

.تفسير الآية رقم (129):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}
{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرًا لما سبق وتكملة له؛ وتقديم الخبر للقصر، و{مَا} عامة للعقلاء وغيرهم تغليبًا أي له سبحانه ما في هذين النوعين، أو ما في هاتين الجهتين مُلكًا ومِلكًا وخلقًا واقتدارًا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلًا منه {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه عدلًا منه وإيثار كلمة {مِنْ} في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه.
وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لإثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلًا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح وهو مذهب الجماعة وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلًا، وتمسكوا في ذلك بوجهين: الأول: الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة، الثاني: أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرًا له وإغراءًا للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة، وقالوا: إن المراد يغفر لمن يشاء إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه: {أَوْ يُعَذّبَهُمْ} [آل عمران: 128] بقوله جل شأنه: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} [آل عمران: 128] وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر {لِمَن يَشَاء} وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين، وا روي عن عطاء {يَغْفِرُ لِمَن} يتوب عليه {وَيُعَذّبُ مَن} لقيه ظالمًا؛ والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات، وأجابوا عن متمسك المخالف، أما عن الأول: فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد، وأما عن الثاني: فبأن مجرد جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلًا عن الجزم به، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرًا فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريرًا وإغراءًا على الذنب مع هذا الزاجر.
وأيضًا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزمًا كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال: إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرًا له وإغراءًا للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَيْء} [آل عمران: 128] ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدًا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أو يعذبهم بقوله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} [آل عمران: 128] لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيرًا {لِمَن يَشَاء} وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكًا في الجملة، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلًا ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين، ومما يدل على كذبه أن فيه حجرًا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن ثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع. فإن قال الخصم: نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا: يكون رجوعًا إلى الاستدلال بالمعقول، وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها، وهو مطلوبنا هنا على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عنه قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل.
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} مع زيادة، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة.
هذا ومن باب الإشارة: {لَيْسُواْ سَوَاء} من حيث الاستعداد وظهور الحق فيهم {مّنْ أَهْلِ الكتاب} الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب الإلهي الأزلي {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} بالله تعالى له {يَتْلُونَ ءايات الله} أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار {أَمَّنْ هُوَ} أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] أي يخضعون لله تعالى ولا يحدث فيهم الأنانية إنهم عالمون وأن من سواهم جاهلون {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر} أي بالمبدأ والمعاد {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} حسا اقتضاه الشرع ولكون ما تقدم نظرًا للخصوص لأن إيداع الأسرار عند الأحرار، وهذا بالنظر إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر {ويسارعون فِي الخيرات} من تكميل أنفسهم وغيرهم {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين} [آل عمران: 114] القائمين بحقوق الحق والخلق {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} يقربكم إلى الله تعالى: {فَلَنْ يُكْفَروهُ} فقد جاء «من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» {والله عَلِيمٌ بالمتقين} [آل عمران: 115] أي الذين اتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} واحتجبوا عن الحق برؤية الأغيار وأشركوا بالله تعالى ما لا وجود له في عير ولا نفير {لَن تُغْنِىَ} لن تدفع {عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} أي عذابه {شَيْئًا} من الدفع لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوها {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار} وهي الحجاب والبعد عن الحضرة {هُمْ فِيهَا خالدون} [آل عمران: 116] لاقتضاء صفة الجلال مع استعدادهم ذلك {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا} الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبًا للشهوات ومحمدة الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي برد شديد {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالشرك والكفر {فَأَهْلَكَتْهُ} عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بإهلاك حرثهم {ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] لسوء استعدادهم الغير المقبول {يَظْلِمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} أي خاصة تطلعونه على أسراركم {مّن دُونِكُمْ} كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ولا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة المحبة في ذلك العالم فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور على الأغراض؛ ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم فإذا كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف، وأنى يتجانس النور والظلمة، وكيف يتوافق مشرق ومغرب؟ا.
أيها المنكح الثريا سهيلا ** عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يماني

ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقية وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى ناراهما، وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه: {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} لامتناع إخفاء الوصف الذاتي {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} لأنه المنشأ لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات} وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة وأسبابهما {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] وتفهمون من فحوى الكلام {تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ} قتضى ما عندكم من التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ويرى الكل مظهرًا لحبيبه جل شأنه فيرحم الجميع ويعلم أن البعض منهم قد اشتغل بباطل نظرًا إلى بعض الحيثيات وابتلى بالقدر، وهذا لا ينافي ما قدمنا آنفًا عند التأمل {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} قتضى الحجاب والظلمة التي ضربت عليهم {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب} أي جنسه {كُلُّهُ} لما أنتم عليه من التوحيد المقتضى لذلك وهم لا يؤمنون بذلك للاحتجاب بما هم عليه {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ} لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] الكامن في صدورهم {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} كآثار تجلي الجمال {تَسُؤْهُمْ} ويحزنوا لها {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ} أي ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال {يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ} على ما ابتليتم به وتثبتوا على التوحيد {وَتَتَّقُواْ} الاستعانة بالسوي {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} لأن الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض عمن سواه ظافر بطلبته غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله تعالى، والمخذول من استعان بغيره وقصده سواه كما قيل:
من استعان بغير الله في طلب ** فإن ناصره عجز وخذلان

{إِنَّ الله بما يَعْمَلُونَ} من المكايد {مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] فيبطلها ويطفئ نارها {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] ذلك وبالشكر تزاد النعم {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} لما رأيت من حالهم {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ} [آل عمران: 124] على صيغة اسم الفاعل السكينة عليكم، أو {مُنزَلِينَ} على صيغة اسم المفعول من جانب الملكوت إليكم {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ} على صدمات تجلية سبحانه: {وَتَتَّقُواْ} من سواه {وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا} أي بلا بطء {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ} [آل عمران: 125] على صيغة الفاعل أي معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة، أو {مُسَوّمِينَ} على صيغة المفعول بعمائم بيض، وهي إشارة إلى الأنوار الإلهية الظاهرة عليهم، وتخصيص الخمسة آلاف بالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل لطيفة من اللطائف الخمس بألف والألف إشارة إلى الإمداد الكامل حيث أنها نهاية مراتب الأعداد وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن النصر على الأعداء وأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك لا يكون إلا عند تقوى القلب وكذا سائر جنود الروح بل والروح نفسها أيضًا بتأييد الحق والتنور بنور اليقين فتحصل المناسبة بين القلب مثلًا وبين ملكوت السماء وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها في أفعاله ورا يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه وذلك عبارة عن نزول الملائكة وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل المكروه طلبًا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية.
وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك لأن النفس حينئذٍ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور فلم تبق تلك المناسبة وانقطع المدد ولم تنزل الملائكة، {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ} أي إلا لتستبشروا به فيزداد نشاطكم في التوجه إلى الحق {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فيتحقق الفيض بقدر التصفية {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} لا من عند الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة وبالخلق عن الحق فالكل منه تعالى وإليه {العزيز} فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء {الحكيم} [آل عمران: 126] الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة {لِيَقْطَعَ} أي يهلك {طَرَفًا مّنَ الذين كَفَرُواْ} وهم أعداء الله تعالى: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يخزيهم ويذلهم {فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} [آل عمران: 127] فيرجعوا غير ظافرين بما أملوا {لَيْسَ لَكَ} من حيث أنت {مِنَ الامر شَيْء} وكله لك من حيثية أخرى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إذا أسلموا فتفرح لأنك المظهر للرحمة الواسعة {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} {أَوْ يُعَذّبَهُمْ} لأجلك فتشتفي بهم من حيث أنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة {فَإِنَّهُمْ ظالمون} [آل عمران: 128] بتلك المخالفة {وَللَّهِ مَا فِي السموات} من عالم الأرواح {وَمَا فِي الأرض} من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء ويختار {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} لأن له التصرف المطلق في الملك والملكوت {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 129] كثير المغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا.