فصل: تفسير الآية رقم (146):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (146):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}
{وَكَأَيّن} كلام مبتدأ سيق توبيخًا للمنهزمين أيضًا حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس. وقد اختلف في هذه الكلمة فقيل: إنها بسيطة وضعت كذلك ابتداءًا والنون أصلية، وإليه ذهب ابن حيان وغيره، وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم، وقيل وهو المشهور: إنها مركبة من أي المنونة وكاف التشبيه؛ واختلف في أي هذه فقيل: هي أي التي في قولهم: أي الرجال، وقال ابن جني: إنها مصدر أوى يأوي إذا انضم واجتمع وأصله أوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت مثل طى وشى وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم كما حدث في كذا بعد التركيب معنى آخر فكم وكأين عنى واحد قالوا: وتشاركها في خمسة أمور: الإبهام والافتقار إلى التمييز والبناء ولزوم التصدير وإفادة التكثير وهو الغالب والاستفهام وهو نادر، ولم يثبته إلا ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك، واستدل عليه بقول أبيّ بن كعب لابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: كائن تقرأ سورة الأحزاب آية فقال: ثلاثًا وسبعين، وتخالفها في خمسة أمور أيضًا، أحدها: أنها مركبة في المشهور وكم بسيطة فيه خلافًا لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الاستفهامية ثم حذفت ألفها لدخول الجار وسكنت للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب، والثاني: أن مميزها مجرور بمن غالبًا حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ويرده نص سيبويه على عدم اللزوم، ومن ذلك قوله:
اطرد اليأس بالرجاء فكائن ** ألما حم يسره بعد عسر

والثالث: أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور، والرابع: أنها لا تقع مجرورة خلافًا لابن قتيبة وابن عصفور أجازا بكاين تبيع الثواب، والخامس: أن خبرها لا يقع مفردًا، وقالوا: إن بينها وبين كذا موافقة ومخالفة أيضًا فتوافقها كذا في أربعة أمور: التركيب والبناء والإبهام والافتقار إلى التمييز، وتخالفها في ثلاثة أمور: الأول: أنها ليس لها الصدر تقول: قبضت كذا وكذا درهما. الثاني: أن تمييزها واجب النصب فلا يجوز جره بمن اتفاقا ولا بالإضافة خلافًا للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال: كذا ثوب وكذا أثواب قياسًا على العدد الصريح، ولهذا قال فقهاؤهم: إنه يلزم بقول القائل له عندي كذا درهم مائة، وبقوله: كذا دراهم ثلاثة، وبقوله: كذا كذا ردهمًا أحد عشر، وبقوله: كذا درهمًا عشرون، وبقوله: كذا وكذا درهمًا أحد وعشرون حملا على المحقق من نظائرهن من العدد الصريح؛ ووافقهم على هذا التفصيل غير مسألتي الإضافة المبرد والأخفش والسيرافي وابن عصفور، ووهم ابن السيد في نقل الإجماع على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكر معه، الثالث: أنها لا تستعمل غالبًا إلا معطوفًا عليها كقوله:
عد النفس نعمي بعد بؤسك ذاكرا ** كذا وكذا لطفًا به نسى الجهد

وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا كذا درهما، وذكر ابن مالك أنه مسموع لكنه قليل قاله ابن هشام، ثم إن إثبات تنوين كأين على القول المشهور في الوقف والخط على خلاف القياس لما أنه نسخ أصلها، وفيه لغات وكلها قد قرئ به: أحدها: كأين بالتشديد على الأصل وهي اللغة المشهورة، وبها قرأ الجمهور، والثانية: كائن بألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء على وزن كاعن كاسم الفاعل، وبها قرأ ابن كثير ومن ذلك قوله:
وكائن لنا فضلا عليكم ومنة ** قديمًا ولا تدرون ما من منعم

واختلف في توجيهها فعن المبرد أنها اسم فاعل من كان يكون وهو بعيد الصحة إذ لا وجه لبنائها حينئذ ولا لإفادتها التكثير، وقيل: أصلها المشددة فقدمت الياء المشددة على الهمزة وصار كيئن بكاف وياء مفتوحتين وهمزة مكسورة ونون ووزنه كعلف، ونظير هذا التصرف في المفرد تصرفهم في المركب كما ورد في لغة نادرة رعملي بتقديم الراء في العمري ثم حذفت الياء الأولى للتخفيف فقلبت الثانية ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها أو حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف وقلبت الياء الساكنة ألفًا كما في آية، ونظيره في حذف إحدى الياءين وقلب الأخرى ألفًا طائي في النسبة إلى طي اسم قبيلة فإن أصله طيئ بياءين مشددتين بينهما همزة فحذفت إحدى الياءين وقلبت الأخرى، والثالثة: كأي بياء بعد الهمزة، وبها قرأ ابن محيصن، ووجهها أنها حذفت الياء الثانية وسكنت الهمزة لاختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة كما سكنوا الهاء في لهو وفهو، وحركت الياء لسكون ما قبلها، والرابعة: كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة؛ والخامسة: كئن بكاف مفتوحة وهمة مكسورة ونون، ووزنه كع، وورد ذلك في قوله:
كئن من صديق خلته صادق الإخا ** أبان اختباري إنه لمداهن

ووجهه أنه حذفت إحدى الياءين ثم حدفت الأخرى للتنوين أو حذفتا دفعة واحدة، واحتمل ذلك لما امتزج الحرفان والكاف لا متعلق لها لخروجها عن معناها، ومن قال به كالحوفي فقد تعسف، وموضعهما رفع بالابتداء.
وقوله تعالى: {مّن نَّبِىٍّ} تمييز له كتمييزكم، وقد تقدم آنفًا الكلام في ذلك، ولعل المراد من النبي هنا الرسول وبه صرح الطبرسي {قَتْلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ} أي جموع كثيرة، وهو التفسير المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستشهد له كما رواه ابن الأنباري حين سأله نافع بن الأزرق بقول حسان:
وإذا معشر تجافوا عن القصـ ** ـد أملنا عليهم ربّيا

وعليه فهو منسوب إلى ربة بكسر الراء وكون الضم فيها لغة غير متحقق وهي الجماعة للمبالغة وخصها الضحاك بألف، وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء، وأخرجه ابن جبير عن ابن عباس أيضًا وعليه فهو منسوب إلى الرب كرباني على خلاف القياس كقراءة الضم، والموافق له الفتح وبه قرئ وقال ابن زيد: الرّبّيون هم الأتباع والربانيون الولاة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب قتل بالبناء للمفعول، وفي خبر المبتدأ أوجه: أحدها: أنه الفعل مع الضمير المستتر فيه الراجع إلى كأين أو إلى نبي وحينئذ فمعه ربيون جملة حالية من الضمير، أو من نبي لتخصيصه معنى، أو معه حال وربيون فاعله. وثانيها: أنه جملة {مَعَهُ رِبّيُّونَ} فحينئذ تكون جملة الفعل مع مرفوعه صفة لنبي وثالثها: أنه محذوف وتقديره مضى ونحوه، وحينئذ يجوز أن يكون الفعل صفة لنبي، و{مَعَهُ رِبّيُّونَ} حالًا على ما تقدم، ويجوز أن يكون الفعل مسندًا لربيون فلا ضمير فيه والجملة صفة لنبي، ورابعها: أن يكون {رِبّيُّونَ} مرفوعًا بالفعل فلا ضمير، والجملة هي الخبر.
وقرئ قتل بالتشديد قال ابن جني: وحينئذ فلا ضمير في الفعل لما في التضعيف من الدلالة على التكثير وهو ينافي إسناده إلى الواحد، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة. واعترض بأنه خلاف الظاهر، ومن هنا قيل: إن هذه القراءة تؤيد إسناد قتل إلى الربيين ويؤيدها أيضًا ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جبير أنه كان يقول: ما سمعنا قط أن نبيًا قتل في القتال، وقول الحسن وجماعة: لم يقتل نبي في الحرب قط ثم إن من ادعى إسناد القتل إلى النبي وأنه في الحرب أيضًا على ما يشعر به المقام حمل النصرة الموعود بها في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] على النصرة بإعلاء الكلمة ونحوه لا على الأعداء مطلقًا لئلا تتنافى الآيتان، وهذا أحد أجوبة في هذا المقام تقدمت الإشارة إليها فتذكر، والتنوين في {نَّبِىٍّ} للتعظيم. وزعم الأجهوري أنه للتكثير.
{فَمَا وَهَنُواْ} عطف على قاتل على أن المراد عدم الوهن المتوقع من القتال والتلبس بالشيء بعد ورود ما يستدعي خلافه وإن كان استمرارًا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة كما قال مولانا شيخ الإسلام: صنع جديد، ومن هنا صح دخول الفاء المؤذنة بترتب ما بعدها على ما قبلها، ومن ذلك قولهم: وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، وأصل الوهن الضعف، وفسره قتادة وابن أبي مالك هنا بالعجز، والزجاج بالجبن أي فما عجزوا أو فما جبنوا {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} في أثناء القتال وهذا علة للمنفي لا للنفي، نعم يفهم المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف وما موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل، وإن جعلا للبعض الباقين بعد قتل الآخرين وهو الأنسب كما قيل: قام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء فهي عبارة عن ذلك أيضًا مع ما اعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن، هذا على القراءة المشهورة، وأما على القراءتين الأخيرتين أعني قتل وقتل على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد قالوا: إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتمًا والكلام حينئذ من قبيل قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم يستأصلهم وإن أسند إلى الضمير كما هو الظاهر الأنسب عند البعض بالتوبيخ على الانخذال بسبب الارجاف بقتله صلى الله عليه وسلم.
وإليه ذهب قتادة والربيع وابن أبي إسحق والسدي كما قيل فهما للباقين أيضًا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال.
{وَمَا ضَعُفُواْ} أي ما فتروا عن الجهاد قاله الزجاج، وقيل: ما عراهم ضعف في الدين بأن تغير اعتقادهم لعدم النصر {وَمَا استكانوا} أي ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة، وقيل: ما خضعوا لعدوهم، وإليه يشير كلام ابن عباس، وكثيرًا ما يستعمل استكان بهذا المعنى، وكذا عنى تضرع، واختلف فيه هل هو من السكون فوزنه افتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للاشباع وهو كثير وليس بخطأ خلافًا لأبي البقاء، ولا يختص بالشعر خلافًا لأبي حيان، أو من الكون فوزنه استفعل وألفه منقلبة عن واو السين مزيدة للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره، وقيل: لأنه كالعدم فهو يطلب من نفسه الوجود. وجوز أن يكون من قول العرب: بات فلان بكينة سوء أي بحالة سوء، أو من كانه يكينه إذا أذله، وعزى ذلك إلى الأزهري وأبي علي، وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء، والجمهور على فتح الهاء من وهنوا وقرئ بكسرها وهي لغة والفتح أشهر، وقرئ بإسكانها على تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى.
{والله يُحِبُّ الصابرين} على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم. والمراد بالصابرين إما الربيون، والإظهار في موضع الاضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولًا أوليًا. والجلمة على التقديرين تذييل لما قبلها.

.تفسير الآية رقم (147):

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية، وهو معطوف على ما قبله، وقيل: كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية، وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من {ءانٍ} وما بعدها في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان قولهم في ذلك المقام واشتباك أسنة الشدائد والآلام إلا أن قالوا.
{ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي صغائرنا {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} أي تجاوزنا عن الحد، والمراد كبائرنا وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: الإسراف تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير، وقيل: إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم. والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضمًا لأنفسهم واستقصارًا لهمهم وإسنادًا لما أصابهم إلى أعمالهم، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبًا وإسرافًا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء، وفيه ما لا يخفى، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه: {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} تقريبًا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة. ومن الناس من قال: المراد من ثبت أقدامنا ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم، وقيل: إنهم طلبوا الغفران أولًا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب، وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى، وفي الإخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع {قَوْلُهُمْ} على أنه الاسم والخبر {ءانٍ} وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئًا من الأشياء إلا هذا القول المنبئ عن أحاسن المحاسن، قال مولانا شيخ الإسلام: «وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق قتضى المقام لما أن الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلًا كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالًا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع، ولا يخفى أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجًا وذهنًا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنوانًا للموضوع لا مقصودًا بالذات في باب البيان، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالإسمية، ولا ريب في أعرفية أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به، وقولهم مضاف إلى مضمر وهو نزلة العلم فتأمل» انتهى.
وقال أبو البقاء: جعل ما بعد {إِلا} اسمًا لكان، والمصدر الصريح خبرًا لها أقوى من العكس لوجهين: أحدهما: أن {أَن قَالُواْ} يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف، والثاني: أن ما بعد {إِلا} مثبت، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا إلخ دأبهم في الدعاء، وقال العلامة الطيبي: كأن المعنى ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع {ءانٍ} مع الفعل اسما لكان، وتحقيقه ما ذكره صاحب الانتصاف من أن فائدة دخول {كَانَ} المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عمومًا باعتبار الكون وخصوصًا باعتبار خصوصية المقال فهو نفى مرتين، ثم قال: فعلى هذا لو جعلت رب الجملة أن قالوا واعتمدت عليه وجعلت قولهم كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسيًا منسيًا في الوجه الثاني واعتمد على ما بعد إلا انتهى.
ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لاسيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الاعرف ضعيف، قال في المغني: واعلم أنهم حكموا لأن وإن المقدرتين صدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضًا كذلك فلهذا قرأت السبعة {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [النمل: 56] والرفع ضعيف كضعف الأخبار بالضمير عما دونه في التعريف انتهى، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤل بأنه لا ينكر.
وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام والبعض، أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة؟ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الإسم مانع من جعله نزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءًا من المقتضى ولا شرطًا في وجوده، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في {وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى} [يونس: 37] أي افتراءًا قاله الشهاب.
وأجيب بأن مراد من قال: إن المصدر المؤل لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤل صدر منكر أصلًا، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة المغني حيث يفهم منها أن أن وإن تارة يقدران صدر معرف وتارة صدر منكر وأنهما إذا قدرا صدر معرف كان له حكم الضمير، ومن هنا قال صاحب «المطلع» في معنى ذلك التعليل: إن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى منكرًا بخلاف {أَن قَالُواْ} بقي في كلام المغني أمور، الأول: أن التقييد بأن وإن هل هو اتفاقي أم احترازي؟ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول: احتجاجًا بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص بأن وإن وللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما الثاني: أنه يفهم من ظاهره أن الاداتين لو قدرتا صدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال: لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. الثالث: أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره ثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول،.
الرابع: أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الإخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم، ويؤيد كلام ابن مالك قوله تعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} [الأنفال: 62] وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولًا في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس سره: فتأمل فتأمل.