فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (44):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين؛ وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وقيل: لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية، وتعديها بإلى حملًا لها على النظر أي ألم تنظر إليهم وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إليهم منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه، وعنه أنها نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ ورهطه يثبطانهم عن الإسلام. والمراد من الكتاب التوراة، وقيل: الجنس وتدخل فيه دخولًا أوليًا وفيه تطويل للمسافة، وقيل: القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته، وفيه أنه خلاف الظاهر، وبالذي أوتوه ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عن بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال، والتنوين للتفخيم، وهو مؤيد للتشنيع، ومثله ما لو حمل على التكثير، و{مِنْ} متعلقة حذوف وقع صفة لنصيبًا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية، وقيل: متعلقة بأوتوا.
وقوله تعالى: {يَشْتَرُونَ الضلالة} استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل: يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج: المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها ال الرشا، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة {يَشْتَرُونَ} حال مقدرة من ضمير {أُوتُواْ} أو حال من {الذين}، وتعقب الوجه الأول: بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام، والثاني: بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور، وما عطف عليه من قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} فالأوجه الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضًا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل وجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره، وفي ذلك أيضًا من التشنيع ما لا يخفى، وقرئ {ءانٍ يُضِلُّواْ} بالياء بفتح الضاد وكسرها.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)}
{والله أَعْلَمُ} منكم أيها المؤمنون {بِأَعْدَائِكُمْ} الذين من جملتهم هؤلاء، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعملية الله تعالى معلومة، وقيل: المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم {وكفى بالله وَلِيًّا} يلي أمركم وينفعكم بما شاء {وكفى بالله نَصِيرًا} يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون؛ وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم، والجملة معترضة أيضًا، والباء مزيدة في فاعل {كفى} تأكيدًا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية، وقال الزجاج: إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله، و{وَلِيًّا} و{نَصِيرًا} منصوبان على التمييز، وقيل: على الحال، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عز وجل مع الإشعار بالعلية.

.تفسير الآية رقم (46):

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
{مّنَ الذين هَادُواْ} قيل: هو بيان للذين أوتوا المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟ا وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف والجمل هنا متعاطفة وبه يصير الشيئان شيئًا واحدًا، وقيل: إنه بيان لأعدائكم، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لاسيما في معرض الاعتراض، وقيل: إنه صلة لنصير أي ينصركم من الذين هادوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفًا ملائمًا للنصر غير ظاهر، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذو.
وقوله تعالى: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} صفة له أي: من الذين هادوا قوم يحرفون ويتعين هذا في قراءة عبد الله و{مِنَ الذين} وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه، ومنه قوله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسمًا موصولًا، و{يُحَرّفُونَ} صلته أي: من الذين هادوا من يحرفون والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها مَن يحرفون واعترض هذا أيضًا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق عزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة، والكلم اسم جنس واحده كلمة كلبنة ولبن، ونبقة ونبق وقيل: جمع وليس بشيء على المختار ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الإثنين مطلقًا، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظًا، وجمعيته باعتبار تعدده معنى، وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف، وقرئ {يُحَرّفُونَ}، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكي عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول: هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم ربعة في نعت النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم الرجم ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضًا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقًا وغربا؟ا.
وأجيب بأن ذلك كا قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من {عَن مواضعه} على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقًا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحًا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان {يُحَرّفُونَ} عنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الكلم ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة (41) من قوله سبحانه: {مِن بَعْدِ مواضعه} أن الثاني أدل على ثبوت مقارّ الكلم واشتهارها مماهنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنالك لأن فيه ما يقتضي الاتيان بالأدل الأبلغ.
{وَيَقُولُونَ} عطف على {يُحَرّفُونَ} وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني حضر النبي صلى الله عليه وسلم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص ادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان حضر النبي صلى الله عليه وسلم أو بلسان الحال أو المقال عنادًا وتحقيقًا للمخالفة {سَمِعْنَا} أي فهمنا {وَعَصَيْنَا} أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} عطف على {سَمِعْنَا} داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله:
خاط لي عمرو قباء ** ليت عينيه سواء

واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسمع كلامًا غير مسمع إياك لأن أذنيك تنبو عنه فغير إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا لعنهم الله تعالى إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى: اسمع منا غير مسمع مكروهًا من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيًا منسيًا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءًا مظهرين له صلى الله عليه وسلم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه.
{وراعنا} عطف على ما قبله أي ويقولون أيضًا في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر بحمله على السب، ففي التيسير: إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون لعنهم الله تعالى أنه وحاشاه صلى الله عليه وسلم نزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير. وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل: إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالًا، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل: يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالًا وحالًا وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن قولهم {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} لم يكن حضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقيل: القول نظرًا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني، وقيل: إن الأولى أيضًا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا، ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم. ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف، ويكون قوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ} إلخ تعدادًا لبعض تحريفاتهم، والمراد إنهم يقولون لك: سمعنا وعند قومهم عصينا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئًا ويبطنون خلافه.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} اللّي يكون عنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى، ويكون عنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى.
والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر، وأصله لوى فقلبت الواو ياءًا وأدغمت، ونصبه على أنه مفعول له ليقولون باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، وقيل: بالأقوال جميعها، أو على أنه حال أي لاوِينَ ومثله في ذلك قوله تعالى: {وَطَعْنًا فِي الدين} أي قدحًا فيه بالاستهزاء والسخرية، وكل من الظرفين متعلق بما عنده {وَلَوْ أَنَّهُمْ} عندما سمعوا شيئًا من أوامر الله تعالى ونواهيه {قَالُواْ} بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل: {سَمِعْنَا} سماع قبول مكان قولهم: {سَمِعْنَا} المراد به سماع الرد {وَأَطَعْنَا} مكان قولهم: {عصينا} {وَعَصَيْنَا واسمع} بدل قولهم: {أَسْمِعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}. {وانظرنا} بدل قولهم: {راعنا} {لَكَانَ} قولهم هذا {خَيْرًا لَّهُمْ} وأنفع من قولهم ذلك {وَأَقْوَمُ} أي أعدل في نفسه، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناءًا على اعتقادهم أو بطريق التهكم، وإما عنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم، والمنسبك من أن وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي: لو ثبت قولهم سمعنا إلخ وهو مذهب المبرد، وقيل: مبتدأ لا خبر له، وقيل: خبره مقدر.
{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم، واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بعد {إِلاَّ قَلِيلًا} اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في {لَّعَنَهُمُ} أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقًا قليلًا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل: هو مستثنى من فاعل {يُؤْمِنُونَ} ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل {لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} على لعن أكثرهم وهو كما ترى، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانًا قليلًا لأنهم وحدوا وكفروا حمد صلى الله عليه وسلم وشريعته، والإيمان عنى التصديق لا الإيمان الشرعي، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله:
قليل التشكي للمهم يصيبه ** كثير الهوى شتى النوى والمسالك

والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانًا معدومًا إما على حد {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 56] أي إن كان المعدوم إيمانًا فهم يحدثون شيئًا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لابد منه كان معدومًا انعدام الكل بجزئه، والوجه هو الأول.