فصل: تفسير الآية رقم (98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (98):

{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)}
{إِلاَّ المستضعفين} استثناء منقطع لأن الموصول وضمائره، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالمًا لنفسه، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون، وقيل: إنه متصل والمستثنى منه {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء: 97] وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا {مِنَ الرجال} كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد {والنساء} كأم الفضل لبابة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس وغيرها {والولدان} كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم، والجار حال من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار، أو يقال: إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر، وأن المراد بهم المراهقون، أو من قرب عهده بالصغر مجازًا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان، أو المراد بهم العبيد والإماء.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي لا يجدون أسباب الهجرة ومباديها {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل، والجملة صفة لما بعد من، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة، أو حال منه، أو من الضمير المستتر فيه، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا.

.تفسير الآية رقم (99):

{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}
{فَأُوْلَئِكَ} أي المستضعفون {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبًا، ولا يأمن، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها. {وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا} تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَمًا كَثِيرًا} ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها، والمراد من المراغم المتحول والمهاجر كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان، وعبر عنه بذلك تأكيدًا للترغيب لما فيه من الأشعار بكون ذلك المتحول الذي يجده يصل فيه المهاجر إلى ما يكون سببًا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم، وعن مجاهد: إن المعنى يجد فيها متزحزحًا عما يكره، وقيل: متسعًا مما كان فيه من ضيق المشركين، وقيل: طريقًا يراغم بسلوكه قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، وقرئ مرغمًا {واسعة} أي من الرزق وعليه الجمهور، وعن مالك سعة من البلاد.
{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} أي يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة، وثمّ لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبًا إن شاء الله تعالى، وهو معطوف على فعل الشرط، وقرئ {يُدْرِكْهُ} بالرفع، وخرجه ابن جني كما قال السمين على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم، والموت فاعله، والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه الموت وتكون الجملة الإسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ** أو تنزلون فإنا معشر نزل

أي أو أنتم تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين: في محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطًا لأنهم يتسامحون في التابع، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع، وقال عصام الملة: ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل {مِنْ} موصولة لأن الشرط لا يكون جملة اسمية ويكون {يَخْرُجُ} أيضًا مرفوعًا، ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، فالأولى أن الرفع بناءًا على توهم رفع {يَخْرُجُ} لأن المقام من مظان الموصول، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا، وقيل: إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله:
عجبت والدهر كثير عجبه ** من عنزي يسبني لم أضربه

وهو كما في الكشف ضعيف جدًا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضًا، ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة؛ والبيت ليس فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء، وقرأ الحسن {يُدْرِكْهُ} بالنصب، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار إن نظير ما أنشده سيبويه من قوله:
سأترك منزلي لبني تميم ** وألحق بالحجاز فأستريحا

ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه، والآية لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذي هو شديد الشبه بغير الموجب كانت أقوى من البيت، وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد الواو والفاء كقوله:
ومن لا يقدم رجله مطمئنة ** فيثبتها في مستوى القاع يزلق

وقاسوا عليهما ثم، فليس ما ذكر في البيت نظير الآية، وقيل: من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل أكرمني وأكرمك أي ليكن منك إكرام ومني، والمعنى من يكن منه خروج من بيته وإدراك الموت له.
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} أي وجب قتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم، وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب فقد قيل: كان مقتضى الظاهر ومن يهاجر إلى الله ورسوله ويمت يثبه إلا أنه اختير {وَمَن يُخْرِجُ مهاجرا مِن بَيْتِهِ} على ومن يهاجر لما أشرنا إليه آنفًا، ووضع {يُدْرِكْهُ الموت} موضع يمت إشعارًا زيد الرضا من الله تعالى، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت، وجيء بثم بدل الواو تتميمًا لهذه الدقيقة، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة، وأقيم {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} مقام يثبه لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت، وأن الأجر عظيم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع؛ وعن الزمخشري: إن فائدة {ثُمَّ يُدْرِكْهُ} بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت، واختلف فيمن نزلت؛ فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة، وكان بلغه قوله تعالى: {إِنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ} [النساء: 97] الآية وهو كة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة كة فحملوه على سرير متوجهًا إلى المدينة وكان شيخًا كبيرًا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله؛ ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزلت، وروى الشعبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في أكتم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير أنها نزلت في خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات، وروي غير ذلك، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب، وقد ذكر أيضًا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول إلى المقصد فحكمه كذلك، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خرج حاجًا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرًا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيًا في سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة»، واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط {وَكَانَ الله غَفُورًا} مبالغًا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج {رَّحِيمًا} مبالغًا في الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته.
ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي وما ينبغي لمؤمن الروح {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} وهو مؤمن القلب {إِلا} أن يكون قتلًا {خطأ}، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقًا من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكًا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودًا {خَطَئًا وَمَن قَتَلَ} قلبًا {مُؤْمِنًا} خطأ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وهي رقبة السر الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى: {فَإن كَانَ} المقتول بالتجلي {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} بأن كان من قوى النفس الأمارة {وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ} بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهرًا والمهادنة للقلب {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} واجبة على عاقلة الرحمة {إلى أَهْلِهِ} أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] أي فعليه الإمساك عن العاديات وترك المألوفات ستين يومًا، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة في نيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرًا لغضب الله تعالى: {عَظِيمًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} لإرشاد عباده {فَتَبَيَّنُواْ} حال المريد في الرد والقبول {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} أي لا تنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيديكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنًا صادقًا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ما عندك من حطامها ليخلو قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} للسالكين إليه فإذا حظي بها السالك ترك لها ما في يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} [النساء: 94] أي مثل هذا المريد كنتم أنتم في مبادي طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمنّ الله عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التي عنده فأنساكم جميع ما في أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه إليكم بحالكم لتعلموا أن الله سبحانه قتضى ما عود المتوجهين إليه الطالبين له سيمنّ على هؤلاء بما منّ به عليكم، ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم. والحاصل أنه لا ينبغي أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا في مبادي الأمر: أترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة، ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال ما يخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج {إِنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ} نعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} حيث قعدتم عن السعي وفرطتم في جنب الله تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذي ندبتم إليه {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} أي أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم {قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} أي ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم، وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التي هي مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التي هي مدينة القلب، وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفي إلى الملائكة لأن التوفي وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه: توفي الملائكة وتوفي ملك الموت وتوفي الله تعالى، فأما توفي الملائكة فهو لأرباب النفوس، وهم إما سعداء وإما أشقياء، وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب، وأما توفي الله تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عز وجل، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الطبيعة {وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال} وهم كما قال بعض العارفين: أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود {والنساء} أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى، قيل: وهم البله المذكورون في خبر «أكثر أهل الجنة البله» {والولدان} أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] لعدم علمهم بكيفية السلوك {فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} حو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم {وَكَانَ الله عَفُوًّا} عن الذنوب ما لم تتغير الفطرة {غَفُورًا} [النساء: 99] يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} عن مقار النفس المألوفة {يَجِدْ فِي الأرض} أي أرض استعداده {مُرَاغَمًا كَثِيرًا} أي منازلًا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه {واسعة} أي انشراحًا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ} أي مقامه الذي هو فيه مهاجرًا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات {وَرَسُولُهُ} بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} أي الانقطاع {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} حسا توجه إليه {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100] فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المؤنة ما يؤكد العزيمة على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: