فصل: تفسير الآية رقم (124):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (124):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ} الأعمال {الصالحات} أي بعضها أو شيئًا منها لأن أحدًا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد، فمن تبعيضية، وقيل: هي زائدة. واختاره الطبرسي وهو ضعيف، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر، وقوله سبحانه: {مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحال من ضمير {يَعْمَلُ} و{مِنْ} بيانية. وجوز أن يكون حالًا من {الصالحات} و{مِنْ} ابتدائية أي: كائنة من ذكر إلخ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى، ومع هذا الأظهر تقدير كائنًا لا كائنة لأنه حال من شيئًا منها وكون المعنى الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى لا يجدي نفعًا لما في ذلك من الركاكة ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم، وجعلهن محرومات من الميراث، وقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حال أيضًا، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر، والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل، وقد مر لك قريبًا ما ينفعك فتذكر.
{فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة. {يَدْخُلُونَ الجنة} جزاء عملهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {يَدْخُلُونَ} مبنيًا للمفعول من الإدخال {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي لا ينقصون شيئًا حقيرًا من ثواب أعمالهم، فإن النقير علم في القلة والحقارة، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب، فإذا لم يرض بالأول وهو أرحم الراحمين فكيف يرضى بالثاني وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا، والجملة تذييل لما قبلها أو عطف عليه.

.تفسير الآية رقم (125):

{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربًا سواه، وقيل: أخلص توجهه له سبحانه، وقيل: بذل وجهه له عز وجل في السجود، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه، و{دِينًا} نصب على التمييز من {أَحْسَنُ} منقول من المبتدأ، والتقدير: ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية، و{مِمَّنْ} متعلق بأحسن وكذا الإسم الجليل، وجوز فيه أن يكون حالًا من {وَجْهَهُ}.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وقيل: الأظهر أن يقال: المراد وهو محسن في عقيدته، وهو مراد من قال: أي وهو موحد، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال، والجملة في موضع الحال من فاعل {أَسْلَمَ}.
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها، وهذا عطف على {أَسْلَمَ} وقوله سبحانه: {حَنِيفًا} أي مائلًا عن الأديان الزائغة حال من {إِبْرَاهِيمَ}. وجوز أن يكون حالًا من فاعل {أَتَّبِعُ} {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلًا} تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه السلام، والإيذان بأنه نهاية في الحسن، وإظهار اسمه عليه السلام تفخيمًا له وتنصيصًا على أنه الممدوح، ولا يجوز العطف خلافًا لمن زعمه على {وَمَنْ أَحْسَنُ} إلخ سواء كان استطرادًا أو اعتراضًا، وتوكيدًا لمعنى قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} [النساء: 124] وبيانًا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان، ولا على صلة {مِنْ} لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أظهر من أن يخفى، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر، والعطف على {حَنِيفًا} لا يصح إلا بتكلف، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال:
قد تخللت مسلك الروح مني ** ولذا سمي الخليل خليلًا

فإذا ما نطقت كنت حديثي ** وإذا ما سكت كنت الغليلا

وإما من الخلل كما قيل على معنى أن كلًا من الخليلين يصلح خلل الآخر، وإما من الخل بالفتح، وهو الطريق في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة، وإما من الخلة بفتح الخاء إما عنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق، وقد جاء «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» أو عنى الفقر والحاجة لأن كلًا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه، وإطلاقه على إبراهيم عليه السلام قيل: لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرًا، فإن من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر، وفي بعض الآثار ولست على يقين في صحته أنه عليه السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له: وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك، فقال: يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه، فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك: يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال: إن ربي عتبني فيك، وقال: أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك: أو قد وقع هذا؟ا مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع إبراهيم عليه السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه، فقيل له في ذلك فقال: تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى إليه أنت خليلي حقًا، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلًا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد»، وقيل واختاره البلخي والفراء لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقي في النار: ألك حاجة؟ أم إليك فلا، ثم قال: حسبي الله تعالى ونعم الوكيل، وقيل: في وجه تسميته عليه السلام خليل الله غير ذلك، والمشهور أن الخليل دون الحبيب. وأيد بما أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلًا فإبراهيم خليله» وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليمًا وقال آخر: فعيسى روح الله تعالى وكلمته؛ وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحه الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر، وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمي قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلًا وموسى نجيًا واتخذني حبيبًا، ثم وقال وعزتي لأوثرون حبيبي على خليلي ونجيي»، والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة، وأن المحبة أوسع دائرة، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه السلام، وهي المرتبة الثابتة له صلى الله عليه وسلم، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلى الله عليه وسلم منه في إبراهيم عليه السلام، فقد صح أن خلقه القرآن، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وشهد الله تعالى له بقوله: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام. وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: إن الله تعالى اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا» والتشبيه على حدّ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] في رأي، وقيل: إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى. وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علمًا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره كما قيل وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفًا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ وأجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف البنوة فإنها تقتضيها قطعًا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
{وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يحتمل أن يكون متصلًا بقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} [النساء: 124] على أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} [النساء: 125] اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقًا وملكًا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلًا وجب أعماله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر وأن يكون متصلًا بقوله جل شأنه: {واتخذ الله} [النساء؛ 125] إلخ بناءًا على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام حض مشيئته تعالى. وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلًا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضًا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.
{وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء مُّحِيطًا} إحاطة علم وقدرة بناءًا على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلابد من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس أو لتحصيل أحوال الكمالات {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} أي تنقصوا من الأعمال البدنية {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} [النساء: 101] أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتزكو عند ذلك الأعمال البدنية، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} ولم تكن غائبًا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائمًا في بحار «لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} أي الأعمال البدنية {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} وليفعلوا كما تفعل {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس {فَإِذَا سَجَدُواْ} وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} ذابين عنكم اعتراض الجاهلين، أو قائمين بحوائجكم الضرورية {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى} منهم {لَمْ يُصَلُّواْ} بعد {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} وليفعلوا فعلك {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} كما أخذ الأولون أسلحتهم، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضًا حثًا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيما يراد منهم اتكالًا على الأخذ بعد ممن أخذ أولًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن، وقيل: الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفى في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة، وفي الثاني أمر الحذر أيضًا {وَدَّ الذين كَفَرُواْ} وهم قوى النفس الأمارة {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} وهي قوى الروح {وَأَمْتِعَتِكُمْ} وهي المعارف الإلهية {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة} ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى} بأن أصابكم شؤبوب {مّن مَّطَرٍ} يعني مطر سحائب التجليات {أَوْ كُنتُم مَّرْضَى} بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد ياه القرب {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى: {إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين} من القوى النفسانية {عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102] أي مذلًا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أي أديتموها {فاذكروا الله} في جميع الأحوال {قِيَامًا} في مقام الروح بالمشاهدة {وَقُعُودًا} في محل القلب بالمكاشفة {وعلى جُنُوبِكُمْ} أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة {فَإِذَا اطمأننتم} ووصلتم إلى محل البقاء {فَإِذَا قَضَيْتُمُ} فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذٍ عن الوساوس النفسانية التي هي نزلة الحدث عند أهل الاختصاص {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قياما وَقُعُودًا} [النساء: 103] فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغاء القوم} الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم {كَمَا تَأْلَمونَ} منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ الله} أي تأملون منه سبحانه: {مَا لاَ يَرْجُونَ} لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة، ولا يخطر ذلك لهم ببال، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها {وَكَانَ الله عَلِيمًا} فيعلم أحوالكم وأحوالهم {حَكِيمًا} [النساء؛ 104] فيفيض على القوابل حسب القابليات {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها {بالحق} متلبسًا ذلك الكتاب بالصدق أو قائمًا أنت بالحق لا بنفسك {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} خواصهم وعوامهم {ا أَرَاكَ الله} أي بما علمك الله سبحانه من الحكمة {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ} الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره {خَصِيمًا} [النساء: 105] تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان، أو تقول لله تعالى: يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم.
{واستغفر الله} من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك {إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 106] فيفعل ما تطلبه منه وزيادة {وَلاَ تجادل} أحدًا {عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} بتضييع حقوقها {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا} لنفسه {أَثِيمًا} [النساء: 107] مرتكبًا الإثم ميالًا مع الشهوات {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} بإزالتها وقلعها {وَهُوَ مَعَهُمْ} محيط بظواهرهم وبواطنهم {إِذْ يُبَيّتُونَ} أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة {مَا لاَ يرضى مِنَ القول} من الوهميات والتخيلات الفاسدة {وَكَانَ الله بما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] فيجازيهم حسب أعمالهم {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا} بظهور صفة من صفات نفسه {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بنقص شيء من كمالاتها {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه {يَجِدِ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110] فيستر ويعطي ما يقتضيه الاستعداد {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} بإظهار بعض الرذائل {أَوْ إِثْمًا} حو ما في الاستعداد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} بأن يقول: حملني الله تعالى على ذلك، أو حملني فلان عليه {فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 112] حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} إلى أن قال: {فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]، {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ} أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه {وَرَحْمَتُهُ} حيث وهب لك الكمال المطلق {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} لعود ضرره عليهم، وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب} الجامع لتفاصيل العلم {والحكمة} التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] حيث جعلك أهلًا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} وهو ما كان من جنس الفضول، والأمر الذي لا يعني {إِلا} نجوى {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة، {أَوْ مَعْرُوفٍ} قولي كتعلم علم، أو فعلي كإغاثة ملهوف {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} الذي هو من باب العدل {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} ويجمع بين تلك الكمالات {ابتغاء مَرْضَاتَ الله} لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة فسوف يؤتيه الله تعالى: {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] ويدخله جنات الصفات {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} أي يخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غير ما عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية {نُوَلّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} الحرمان {وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء؛ 115] لمن يصلاها {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا} وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيدًا} [النساء؛ 117] وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه {لَّعَنَهُ الله} أي أبعده عن رياض قربه {وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء؛ 118] وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى {وَلاَضِلَّنَّهُمْ} عن الطريق الحق {وَلامَنّيَنَّهُمْ} الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام} أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119] وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد {والذين ءامَنُواْ} ووحدوا {وَعَمِلُواْ الصالحات} واستقاموا {سَنُدْخِلُهُمْ جنات} [النساء: 122] جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات {لَّيْسَ} أي حصول الموعود {بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب} [النساء: 123] بل لابد من السعي فيما يقتضيه، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} أي حالًا {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} وسلم نفسه إليه وفنى فيه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} في التوحيد {حَنِيفًا} مائلًا عن السوي {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلًا} [النساء: 125] حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه عز وجل فهو عارف به بكل جزء منه، ومن هنا قيل: إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله؛ وأنشد:
ما قدّ لي عضو ولا مفصل ** إلا وفيه لكم ذكر

{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء مُّحِيطًا} [النساء: 126] من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود، وهو رب الكرم والجود، لا رب غيره؛ ولا يرجى إلا خيره.