فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (4):

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}
{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات، أخرج ابن جرير. والبيهقي في سننه. وغيرهما عن أبي رافع قال: «جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام: قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {يسألونك...} [الآية:2]».
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي. وسعد بن خيثمة. وعويم بن ساعدة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم. وزيد بن المهلهل الطائيان، وقد ضمن السؤال معنى القول، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول، وليس معلقًا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له، فيعلق كما يعلق خلافًا لأبي حيان، فاندفع ما قيل: إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر، فيقال: سئل عن كذا، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، والأول مختار الأكثرين، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول: أقسم زيد ليضربن، ولو قلت: لأضربن جاز، والمسؤول نظرًا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل، وقيل: إن المسؤول ما أحل من الصيد والذبائح {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه، وإلى ذلك ذهب البلخي، وعن أبي علي الجبائي. وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيحد، وقيل: ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لابد من استناده لنص وإن لم نقف عليه، والطيب على هذين القولين عنى الحلال، وعلى الأول عنى المستلذ، وقد جاء بالمعنيين {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن {مَا} موصولة، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه، قيل: والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على {الطيبات} من عطف الخاص على العام، وقيل: الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد عنى المصيد لأن الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل، ويحتمل أن تكون {مَا} شرطية مبتدأ، والجواب فكلوا، والخبر الجواب، والشرط على المختار، والجملة عطف على جملة {أُحِلَّ لَكُمُ} ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.
ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه، وقال تقديره لا يبطل كون {مَا} شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه كما تقول غلام من يضرب أضرب كما تقول من يضرب أضرب، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليًا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل {مَا أَمْسَكْنَ} من وضع الظاهر موضع ضمير {ما علمتم} فافهم، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضًا، والخبر كلوا، والفاء إنما دخلت تشبيهًا للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر، و{مّنَ الجوارح} حال من الموصول، أو من ضميره المحذوف، و{الجوارح} جمع جارحة، والهاء فيها كما قال أبو البقاء للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرًا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم، وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غابًا.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. والسدى. والضحاك وهو المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة أنها الكلاب فقط {مُكَلّبِينَ} أي معلمين لها الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح؛ ومضربها بالصيد، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرًا ما يقع فيه؛ أو لأن كل سبع يسمى كلبًا على ما قيل، فقد أحرج الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد من حديث أبي نوفل قال: «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك أو كلبك فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلًا فيه سباع فقال: إني أخاف دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به»، ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرًا، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبًا عليه.
وجوز أن يكون مشتقًا من الكلب الذي هو عنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريًا به، وانتصابه على الحالية من فاعل {عَلِمْتُمُ}، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه، وعن ابن عباس. وابن مسعود. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرأوا {مُكَلّبِينَ} بالتخفيف من أكلب، وفعل وأفعل قد يستعملان عنى واحد {تُعَلّمُونَهُنَّ} حال من ضمير {مُكَلّبِينَ} أو استئنافية إن لم تكن {مَا} شرطية وإلا فهي معترضة، وجوز أن تكون حالًا ثانية من ضمير {عَلِمْتُمُ} ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر، ولم يستحسن جعلها حالًا من {الجوارح} للفصل بينهما.
{مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من الحيل وطرق التعليم والتأديب، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا، وقيل: المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بارسال صاحبه. وينزجر بزجره. وينصرف بدعائه. ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبًا فقيهًا أيضًا، ومن أجلية، وقيل: تبعيضية أي بعض ما علمكم الله {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره، أو جواب للشرط، أو خبر للمبتدأ، ومن تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك، وقيل: زائدة على رأي الأخفش؛ وخروج ما ذكر بديهي؛ و{مَا} موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي أمسكنه، وضمير المؤنث للجوارح، و{عَلَيْكُمْ} متعلق بأمسكن، والاستعلاء مجازي؛ والتقييد بذلك لا خراج ما أمسكنه على أنفسهن، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه؛ وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم، روي أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه. والشعبي. وعكرمة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. وأصحابه: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج عبد بن حميد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل، لأن الكلب تستطيع أن تضربه، والصقر لا تستطيع أن تضربه، وعليه إمام الحرمين من الشافعية؛ وقال مالك. والليث: يؤكل وإن أكل الكلب منه، وقد روي عن سلمان. وسعد بن أبي وقاص. وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل {ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} الضمير لما علمتم كما يدل عليه الخبر السابق، والمعنى سموا عليه عند إرساله؛ وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن. والسدي، وقيل: لما أمسكن أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وقيل: للمصدر المفهوم من كلوا أي سموا الله تعالى على الأكل وهو بعيد وإن استظهره أبو حيان، والأمر للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وللندب عند الشافعي، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق {واتقوا الله} في شأن محرماته، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي سريع إتيان حسابه، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه، فقد جاء أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يواخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطية على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة، والمحتاجون للصيد الحافظون لدينهم أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.
فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرطفة بن نهيك التميمي قال: يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة في جماعة، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلى الله عليه وسلم: أحله لأن الله تعالى قد أحله، نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلى رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى» واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب الجوسي. أو بازه. أو صقره. أو عقابه فيرسله أنه قال: لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوسي، وإنما قال الله تعالى: {تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله}.

.تفسير الآية رقم (5):

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
{اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس.
وقال النيسابوري: فائدة الإعاذة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره، والأول أولى. {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} أي حلال، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة كما روي عن ابن عباس. وأبي الدرداء. وإبراهيم. وقتادة. والسدى. والضحاك. ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال الجبائي. والبلخي. وغيرهم.
وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله، وعليه أكثر المفسرين، وقيل: إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وبه قال جماعة من الزيدية، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال صاحباه: الصابئة صنفان: صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرأون كتابًا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال: «كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم» وهو وإن كان مرسلًا وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضيعف إلا أن إجماع أكثر المسلمين كما قال البيهقي عليه يؤكده، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله تعالى كعزير وعيسى عليهما السلام فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا تحل وهو قول ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل وهو قول الشعبي. وعطاء قالا: فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع يفلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك.
{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} قال الزجاج وكثير من المتأخرين: إن هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم، فلا تصلح الآية دليلًا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام، فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعًا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدًا فكيف جاز {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}؟ وعن بعضهم فإن قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعموكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرمًا عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم، ثم نسخ ذلك في شريعتنا، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرمًا عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضًا ولذلك لو أطعمونا خنزيرًا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين.
{والمحصنات مِنَ المؤمنات} عطف على {الطيبات}. أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضًا، والجار والمجرور متعلق حذوف وقع حالًا من المحصنات، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء، والمراد بهن عند الحسن والشعبي وإبراهيم: العفائف، وعند مجاهد: الحرائر، واختاره أبو علي، وعند جماعة العفائف والحرائر، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق، وكذا نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه.
{والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} وإن كن حربيات كما هو الظاهر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يجوز نكاح الحربيات، وخص الآية بالذميات، واحتج له بقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] قال الجصاص: وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ولقوله سبحانه: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10] وأولوا هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات، وذلك أن قومًا كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لا حرج في ذلك، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضًا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة باآيتين المتقدمتين آنفًا احتجاجًا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في ذلك، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة، نعم أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام».
أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله: أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا فلما رجعنا طلقناهن. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فإن كان لابد فاعلًا فليعمد إليها حصانًا غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.
{إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازًا، ولعله أقرب من الأول، وإن كان المآل واحدًا، و{إِذَا} ظرف لحل المحذوف، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي إذا آتيتموهن أجورهن حللن لكم. {مُّحْصِنِينَ} أي أعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل {ءاتَيْتُمُوهُنَّ} وكذا قوله تعالى: {غَيْرَ مسافحين}، وقيل: هو حال من ضمير {مُّحْصِنِينَ}، وقيل: صفة لمحصنين أي غير مجاهرين بالزنا، {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} أي ولا مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى، وقيل: الأول: نهى عن الزنا، والثاني: نهى عن مخالطتهنّ، و{مُتَّخِذِى} يحتمل أن يكون مجرورًا عطفًا على {مسافحين} وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من {غَيْرِ}، ويحتمل أن يكون منصوبًا عطفًا على {غَيْرَ مسافحين} باعتبار أوجهه الثلاثة.
{وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي من ينكر المؤمن به، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى.
{وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} أي الهالكين، والآية تذييل لقوله تعالى: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} إلخ تعظيمًا لشأن ما أحله الله تعالى وما حرمه، وتغليظًا على من خالف ذلك، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف كما قيل أي وجب الإيمان وهو الله تعالى ليس بشيء، وإن أشعر به كلام مجاهد، وضمير الرافع مبتدأ، و{مّنَ الخاسرين} خبره، و{فِى} متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق، وقيل: حذوف دل عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة، وقيل: بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وقيل: يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله:
ربيته حتى إذا ما تمعددا ** كان جزائي بالعصا أن أجلدا

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} بالإيمان العلمي {أَوْفُواْ بالعقود} أي بعزائم التكليف، وقال أبو الحسن الفارسي: أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات، والرياضات في المحاسبات، والحراسة في الخطرات، والرعاية في المشاهدات، وقال بعضهم: {أَوْفُواْ بالعقود} عقد القلب بالمعرفة، وعقد اللسان بالثناء، وعقد الجوارح بالخضوع، وقيل: أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} من التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] فليرض السالك بحكمه ليستريح، ويهدي إلى سبيل رشده {يُرِيدُ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها {وَلاَ الشهر الحرام} وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما ينافيه {وَلاَ الهدى} وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها، أو تكليفها بما يكون سبب مللها {وَلاَ القلائد} وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل {وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ} وهم السالكون، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّن رَّبّهِمْ} بتجليات الأفعال {وَرِضْوَانًا} بتجليات الصفات، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أن تعتدوا عليها، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم قتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} بتدبير تلك القوى وسياستها، أو راعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} فإن ذلك يقطعكم عن الوصول، وعن سهل أن البر الإيمان والتقوى السنة والإثم الكفر والعدوان البدعة، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه البر الإيمان والتقوى الإخلاص والإثم الكفر والعدوان المعاصي، وقيل: البر ما توافق عليه العلماء من غير خلاف والتقوى مخالفة الهوى والإثم طلب الرخص {والعدوان} التخطي إلى الشبهات {واتقوا الله} في هذه الأمور.
{أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} [المائدة: 2] فيعاقبكم بما هو أعلم {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة {والدم} وهو التمتع بهوى النفس {وَلَحْمَ الخنزير} أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} من الأعمال التي فعلت رياءًا وسمعة {والمنخنقة} وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها، {والموقوذة} وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى {والمتردية} وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان {والنطيحة} وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلًا {وَمَا أَكَلَ السبع} وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام} بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا: لو كان مقدرًا لنا لعملنا فإنه را كان القدر معلقًا بالسعي {ذلكم فِسْقٌ} خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي، والإتكال على المقدر بجعلهما عبثًا {اليوم} وهو وقت حصول الكمال {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} بأن يصدّوكم عن طريق الحق {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} فإنهم لا يستولون عليكم بعد {واخشون} لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ببيان ما بينت {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} بذلك أو بالهداية إليَّ {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام} أي الانقياد للانمحاء {دِينًا فَمَنِ اضطر} إلى تناول لذة في {مَخْمَصَةٍ}، وهي الهيجان الشديد للنفس {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} غير منحرف لرذيلة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] فيستر ذلك ويرحم دد التوفيق.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} وهي الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية {مُكَلّبِينَ} معلمين لها على اكتساب الفضائل {تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من علوم الأخلاق والشرائع {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} مما يؤدي إلى الكمال {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} [المائدة: 4] بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه لا أنه لذة نفسانية {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} وهو مقام الفرق والجمع {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعًا، ولأهل الجمع فرقًا {والمحصنات مِنَ المؤمنات} وهي النفوس المهذبة الكاملة {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} بإنكاره الشرائع {وَهُوَ فِي الاخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5] بإنكاره الحقائق، والظاهر عدم التوزيع، والله تعالى أعلم راده، وهو الموفق للصواب.