فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (14):

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بما كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود، و{مِنْ} متعلقة بأخذنا، وتقديم الجار للاهتمام، ولأن ذكر حال إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضًا أخذنا ميثاقهم والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه. وجوز أن يكون الجار متعلقًا حذوف وقع خبرًا لمبتدأ محذوف أيضًا، وجملة {أَخَذْنَا} صفة أي ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم وقيل: المبتدأ المحذوف {مِنْ} الموصولة، أو الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين.
وإنما قال سبحانه: {قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل جل وعلا ومن النصارى كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم ولسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم وجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها عزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضًا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لهم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو «نصورية وبها سميت النصارى ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى. وندمان أو جمع نصري كمهري. ومهاري والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضًا دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم».
{فَنَسُواْ} على إثر أخذ الميثاق {حَظًّا} نصيبًا وافرًا {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل: هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره: غريت به غراءًا بالمد، وأغريت زيدًا بكذا حتى غرى به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ} ظرف لأغرينا أو متعلق حذوف وقع حالًا من مفعوله أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم.
قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفًا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفًا، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسا تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية واليعقوبية والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير {بَيْنَهُمْ} إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج. والطبري، وعن الحسن. وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى.
{وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بما كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب؛ فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارًا حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها نزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارًا، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه و{سَوْفَ} لتأكيد الوعيد.

.تفسير الآية رقم (15):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}
{مّنْ أَهْلِ الكتاب} التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل قتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام {يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من {رَسُولِنَا} وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينًا لكم على سبيل التدريج حسا تقتضيه المصلحة {كَثِيرًا مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية» وتأخير {كَثِيرًا} عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، و{مّمَّا} متعلق حذوف وقع صفة لكثيرًا وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، و{مّنَ الكتاب} حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيرًا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي ولا يظهر كثيرًا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر كما قال الشهاب لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها.
{قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب قتادة واختاره الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه فالعطف في قوله تعالى: {وكتاب مُّبِينٌ} لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول: فهو ظاهر، وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: {قَدْ جَاءكُمُ} بغير عاطف فعلق به أولًا وصف الرسول والثاني: وصف الكتاب، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم ف{يَهْدِى بِهِ} [المائدة: 16] إلى آخره يرجع إلى قوله سبحانه: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} و{يُخْرِجُهُم} [المائدة: 16] إلخ يرجع إلى قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمُ من الله نُورٍ} و{وَيَهْدِيهِمْ} [المائدة: 16] يرجع إلى قوله عز شأنه: {وكتاب مُّبِينٌ} كقوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] انتهى.
وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي، ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلى الله عليه وسلم، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، و{مِنْ} لابتداء الغاية مجازًا، أو متعلق حذوف وقع حالًا من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم عنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافيًا عليهم.

.تفسير الآية رقم (16):

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
{يَهْدِى بِهِ الله} توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظرًا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة. جوز أبو البقاء أن تكون حالًا من {رَسُولِنَا} بدلًا من {يُبِينُ} [المائدة: 15] وأن تكون حالًا من الضمير في {يُبِينُ}، وأن تكون حالًا من الضمير في {مُّبِينٌ}، وأن تكون صفة لنور {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، و{مِنْ} موصولة أو موصوفة {سُبُلَ السلام} أي طرق السلامة من كل مخافة قاله الزجاج فالسلام مصدر عنى السلامة. وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردًا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، والمراد حينئذٍ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. وقيل: إنها بدل من رضوان بدل كل من كل، أو بعض من كل أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها لغتان، وقد قرئ بهما، والسبل بضم الباء والتسكين لغة، وقد قرئ به.
{وَيُخْرِجُهُمْ} الضمير المنصوب عائد إلى {مِنْ} والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في {أَتَّبِعُ} باعتبار اللفظ. {مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان {بِإِذْنِهِ} أي بإرادته أو بتوفيقه. {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى كما قال الحسن وفي إرشاد العقل السليم وهذه الهداية عين الهداية إلى {سُبُلَ السلام} وإنما عطفت عليها تنزيلًا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58].
وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة.

.تفسير الآية رقم (17):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وأن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك على ما هو المشهور هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتًا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم: لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحًا لجهلهم وتفضيحًا لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن قيل: إن أحدًا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحدًا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحدًا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الآلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء.
{قُلْ} يا محمد تبكيتًا لهم وإظهارًا لبطلان قولهم الفاسد وإلقامًا لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا} عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، و{مِنْ} استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا فمن يمنع أو يستطيع كما في قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا

و{مِنَ الله} متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئًا {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا} ومن حق من يكون إلهًا أن لا يتعلق به ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلًا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه عزل عما تقولون فيه.
والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقًا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض إرادة إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجًا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر أحد على دفع ما أريد به فضلًا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود، و{جَمِيعًا} حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالًا من {مِنْ} فقط لعمومها.
وقوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادًا وإعدامًا، وإحياءًا وإماتة لا لأحد سواه استقلالًا ولا اشتراكًا، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلهًا كان له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابنًا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة.
وقوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، و{مَا} نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض مثلًا، وأخرى من أصل كخلق بعض ما بينهما وذلك متنوع أيضًا، فطورًا ينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده كخلق حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام أو منهما كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات ككثير من المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له.
وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد. وقيل: إن الجملة جيء بها هاهنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} إلخ بحسب اقتضاء المقام، و{مَا} نصب على المصدرية أيضًا، وقيل: يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة.