فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (8):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ ؤْمِنِينَ (8)}
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 6] وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشر آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرمًا من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الاسفل مِنَ النار} [النساء: 145] والناس أصله عند سيبويه والجمهور أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفًا فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله:
إن المنايا يطلعـ ** ـن على الأناس الآمنينا

وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل:
وما سمى الإنسان إلا لأنسه ** ولا القلب إلا أنه يتقلب

أو من آنس أي أبصر قال تعالى: {مِن جَانِبِ الطور نَارًا} [القصص: 29] وجاء عنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل.
وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم عليه السلام: {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ فلع ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس من الجن، قال أبو حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرًا لاسيما إذا قلنا إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادًا بها عبد الله بن أبيّ وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلًا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} [التوبة: 61] لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرًا للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق تضمن الأخبار عمن يقول بأنه من الناس فائدة، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدًا أيضًا وملوحًا إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونه من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها أو مناط الفائدة الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون {مِنْ} موصلة مدعيًا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقًا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن {وَمِنَ الناس} الآية وقع عديلًا لأن الذين كفروا بيانًا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين؛ وبهذا الاعتبار صاروا قسمًا ثالثًا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى: {يِقُولُ ءامَنَّا} مراعاة للفظ من ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعًا حسن مراعاة اللفظ أولًا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر:
لست ممن يكع أو يستكينو ** ن إذا كافحته خيل الأعادي

واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى على ما يليق بجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للايذان بأنهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودًا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلًا كنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانًا لأنه لابد من الإقرار بما جاء به صلى الله عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟ا وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضًا ترك الراسخ في القلب مما عليه الإباء بترك الإيمان به صلى الله عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم وحمل {بالله وباليوم الأخر} على القسم منهم على الإيمان سمج بالله، وأسمج منه راتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا {وَمَا هُم ؤْمِنِينَ} فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي.
واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد له، وسمي آخرًا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول لأن إطلاق اليوم شائع عليه في القرآن سواء كان حقيقة أو مجازًا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم لغة هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم عرفًا من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعًا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، واصطلاحًا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه: {وَمَا هُم ؤْمِنِينَ} حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم، وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقًا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضًا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم: {هُم ؤْمِنِينَ} على قصر الإفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنًا، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس ؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيًا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الانكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ اشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم محمد صلى الله عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.

.تفسير الآية رقم (9):

{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير أو التلخص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلًا يستهجن شرعًا أو عقلًا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون الحرب خدعة مجازًا ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق لأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضًا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجل من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق كما في الانتصاف ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع عنى إظهار التأثر دونه كرمًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن غر كريم» لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عند أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في {يخادعون} وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحًا وكون المفعول آتيًا ثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحًا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب كما قيل بأن المراد مخادعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازًا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين.
وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة {يخدعون} والجواب عما يلزم هو الجواب فيما يلزم، وقد تأتي فاعل عنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع و{يخادعون} إما بيان لـِ {يقول} [البقرة: 8] لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون إلخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى.
وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلًا من صلة {من} [البقرة: 8] بدل اشتمال أو حالًا من الضمير المستكن في {يقول} [البقرة: 8] أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالًا من الضمير المستتر في {مؤمنين} [البقرة: 8]، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدًا للنفي لا للمنفي كما قرروه في لم أبالغ في اختصاره تقريبًا، وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في «بحره»، نعم التعجب من كون الجملة بيانًا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى.
ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية را يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى، وقرأ الحرميان وأبو عمرو: {وَمَا يخادعون}، وقرأ باقي السبعة: {وَمَا يَخْدَعُونَ} وقرأ الجارود وأبو طالوت: {وَمَا يَخْدَعُونَ} بضم الياء مبنيًا للمفعول. وقرأ بعضهم: {وَمَا يخادعون} بفتح الدال مبنيًا للمفعول أيضًا وقرأ قتادة والعجلي: {وَمَا يَخْدَعُونَ} من خدع مضاعفًا مبنيًا للفاعل، وبعضهم بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلًا، ولا يشكل على قراءة {يخادعون} أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولًا، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتباره أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبادة الدالة عليه مجازًا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازًا مرسلًا عن ضرره في المرتبة الثانية، وكونه مجازًا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال

لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم باعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم، وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازًا وكل يعمل على شاكلته.
والنفس حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 12] {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحال لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتًا لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في «شرح القانون» للإمام الرازي وكثيرًا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في من عرف نفسه فقد عرف ربه وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضًا ولذلك الشرف قد يسمى نفسًا، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعين كما لا يخفى، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وجملة {وَمَا يَشْعُرُونَ} مستأنفة أو معطوفة على {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} ومفعول {يَشْعُرُونَ} محذوف أي: وما يشعرون أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على خداعهم وكذبهم كما روي ذلك عن ابن عباس أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل كما في البحر أن يكون {وَمَا يَشْعُرُونَ} جملة حالية أي: وما يخدعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور الادراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون عنى العلم، قال الراغب: شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس؛ ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقول: شعرت كذا أي أدركت شيئًا دقيقًا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو أذنته ورأسته وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر؛ ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور عنى العلم فمعنى {لاَّ يَشْعُرُونَ} لا يعلمون وكثيرًا ما ورد بهذا المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه عنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالأنعام بل هم أضل. ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى، وهو أيضًا أنسب بقوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7] كما لا يخفى.