فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (18):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله} حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم بالأبناء المقربون أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء جمع حبيب عنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازًا إما تغليبًا أو تشبيهًا لهم بالأبناء في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله:
قدنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبِيْنَ قَدِي

على رواية من رواه بالجمع، فقد قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع عنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الإبنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب {بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} يأباه ظاهرًا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان. وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم، ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة، فقد أخرج ابن جرير. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آص وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى ذلك قبلهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا.
وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم، ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضًا في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جدًا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم، وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء قابيل، وكنّ حسانًا جدًا فصرفن قلوبهن عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضًا أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى: تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من «الرسالة الأولى» انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعى أبناء وفي الفصل الثالث أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه وقال متى: قال المسيح: أحبوا أعداءكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ في «قصص الحواريين»: يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك، وقال بولس الرسول في «رسالته إلى ملك الروم»: إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وقد جاء أيضًا إطلاق الابن على العاصي ولكن عنى الأثر ونحوه، ففي «الرسالة الخامسة لبولس» إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور.
ومقصود الفريقين بـ {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} هو المعنى المتضمن مدحًا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلًا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} إلزامًا لهم وتبكيتًا {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أيامًا بعدد أيام عبادتكم العجل، وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره، وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء، وقد ورد «أشد الناس بلاءًا الأنبياء عليهم السلام ثم الأمثل فالأمثل»، وقال الشاعر:
ولكنهم أهل الحفائظ والعلا ** فهم لملمات الزمان خصوم

وقوله تعالى: بَلْ أَنتُم بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه: {مّمَّنْ خَلَق} متعلق حذوف وقع صفة {بُشّرَ} أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم.
{يَغْفِرُ مَن يَشَآء} أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في «شرح مسلم» للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصًا بهذه الأمة وفيه نظر. هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالًا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى {نَحْنُ أَبْنَاء الله} تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقًا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بشر ممن خلق، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة را يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة، ومن هنا قيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ** هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع

وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتًا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون زيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرًا بقوله سبحانه: {ممن خلق} حتى لا يبعد أن يكون {يغفر لمن يشاء} أيضًا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب.
وفي الكشف أن قولهم: {نحن أبناء الله} تعالى فيه إثبات الإبن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملًا على هدم القولين فقيل: من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم، وأيضًا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكون أشياعه، وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه لإبطال أن يكونوا أبناءًا حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازًا كما فسره الزمخشري اه.
وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض. نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيهًا لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه عنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم مما أشرنا إليه سابقًا فلا تغفل.
{وَلله مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادًا وإعدامًا، إحياءًا وإماتة، إثابة وتعذيبًا فأنى لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! ورا يقال: إن هذا مع ما تقدم ردّ لكونهم أبناء الله تعالى عنى أشياع بنيه، فنفى أولًا كونهم أشياعًا وثانيًا وجود بنين له عز شأنه {وَإلَيْه المصير} أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالًا أو اشتراكًا فيجازي كلًا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
{يَاأَهْلَ الكتاب} تكرير للخطاب بطريق الإلتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة {قَدْ جَاءَكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} على التدريج حسا تقتضيه المصلحة الشرائع والأحكام النافعة معادًا ومعاشًا المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتمادًا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعديًا مع تقدير المفعول {كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب} كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريرًا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: {عَلَى فَتْرَة مِّنَ الرسل} فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، و{على فترة} متعلق بجاءكم على الظرفية كما في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان. وجوز أن يتعلق حذوف على أنه حال من ضمير {يبين} أو من ضمير {لكم} أي يبين لكم حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة. و{من الرسل} صفة {فترة} و{من} ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورًا إذا سكن، والأصل فيها الإنقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين.
واختلفوا في مدتها بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين نبينا صلى الله عليه وسلم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياء هم المشار إليهم بقوله تعالى: {أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} [ياس: 14]، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان عليه السلام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «ذلك نبي ضيعه قومه» ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناءًا على أنه كان بأمره عز وجل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك؛ وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في محاضراته، وبعضهم لم يثبته، وبعضهم قال: إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه ورد في حديث:«لا نبي بيني وبين عيسى» صلى الله تعالى عليهما وسلم، لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في كتب الآثار مفصلة، وذكر أن بنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت به، ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصًا في كتابه فصوص الحكم، وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح الخبر بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤهما إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جدًا، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف نبي من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم.
{أَن تَقُولُواْ} تعليل لمجيء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا كما قدره البصريون أو لئلا تقولوا كما يقدر الكوفيون معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة {مَا جَاءَنَا من بَشير وَلاَ نذير} وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة {من} في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بشير ونذير على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل؛ وتعقيب {قد جاءكم} إلخ بهذا يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد، والفاء في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُم بَشيرٌ وَنَذيرٌ} تفصح عن محذوف ما بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فقد جاءكم وتسمى الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمرًا أو نهيًا، وتارة يكون شرطًا كما في قوله تعالى: {فهذا يوم البعث} [الروم: 56]، وقول الشاعر:
فقد جئنا خراسانًا

وتارة معطوفًا عليه كما في قوله تعالى: {فانفجرت} [البقرة: 60] وقد يصار إلى تقدير القول كما في الفرقان (19) في قوله تعالى: {فقد كذبوكم}، وإن شئت قدرت هنا أيضًا فقلنا: لا تعتذروا فقد إلخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال: في البيت مثلًا، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراسانًا، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء، فلا تنافي بين التقادير. والتقادير المختلفة، ولو سلم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر كما حققه في الكشف وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين {بشير} و{نذير} للتفخيم {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ} فيقدر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال بعد الفترة.