فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (25):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}
{قَالَ} موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي ثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة. فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردًا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارًا عن عدم الدخول {رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} هارون عليه السلام وهو عطف على {نَفْسِى} أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نفسي وأخي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما. وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيهًا لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد بأخي من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في {أَخِى} وجوهًا أخر من الإعراب: الأول: أنه منصوب بالعطف على اسم إن، الثاني: أنه مرفوع بالعطف على فاعل {أَمْلِكُ} للفصل، الثالث: أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع: أنه معطوف على محل اسم إن البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس: أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم إن أو فاعل {أَمْلِكُ} أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك. ومفهومه الكلي لا الشخص المعين تعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن.
{فافرق بَيْنَنَا} يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله، وقرئ {فافرق} بكسر الراء {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (26):

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
{قَالَ فَإِنَّهَا} فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به، وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ** إني امرؤ صرعي عليك حرام

يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي وإليه يشير كلام البلخي أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر {أَرْبَعِينَ سَنَةً} متعلق حرمة فيكون التحريم مؤقتًا لا مؤبدًا فلا يكون مخالفًا لظاهر قوله تعالى: {كَتَبَ الله لَكُمْ} [المائدة: 21] والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن لا عنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسا روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروى ذلك عن الحسن ومجاهد، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: {لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا} [المائدة: 24] وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة.
وقوله تعالى: {يَتِيهُونَ فِي الأرض} استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير {عَلَيْهِمْ}، والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق. وقيل: الظرف متعلق {يَتِيهُونَ}، وروى ذلك عن قتادة فكيون التيه مؤقتًا والتحريم مطلقًا يحتمل التأبيد وعدمه، وكان مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخًا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخًا في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلًا في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون كما قاله الحسن. ومجاهد قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا: {إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل.
وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يومًا فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان حو العلامات التي يستدل بها، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض. وقال أبو علي الجبائي: إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله. وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ والسلوى، وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعًا لعطشهم، قيل: ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روى عن طاوس.
وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه.
والعادة تبعد كثيرًا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه فقال: إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له: هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال: لا أرضى بالكذب ثوبًا، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن موسى وهرون عليهما السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحًا وسلامة كالنار لإبراهيم عليه السلام، ولعل الرجلين أيضًا كانا كذلك.
وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما السلام فقالوا: قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه، فبرأه مما يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى عليه السلام بعده بسنة، وقيل: بستة أشهر ونصف، وقيل: بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحاء بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة: بشهرين، وكان قد نبئ قبل من بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل ولا يساعده النظم الكريم فإنه بعدما قبل دعوته عليه السلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة النبيين عليهما السلام في محل العقوبة ظاهرًا، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار وتهما عليهما السلام بالتيه كثيرة لاسيما الأخبار وت هارون عليه السلام، ولا أرى للاستبعاد محلًا، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل.
وقيل: إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه، وأن الدعاء وقد أجيب كان بالفرق عنى المباعدة في المكان بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح، فإن كثيرًا من الآيات كالنص في وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لا يخفى.
{فَلاَ تَأْسَ} أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه من الأسى وهو الحزن {عَلَى القوم الفاسقين} الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم؛ فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين. وقال الزجاج: إنه للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالقوم الفاسقين معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل: هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}
{واتل عَلَيْهِمْ} عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى} [المائدة: 20] إلخ، وتعلقه به قيل: من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعدما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به من البينات. وقيل: من حيث إن في الأول الجبن عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية، وضمير {عَلَيْهِمْ} يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولًا، وأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة ذلك عليهم إعلامًا لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم، وقيل: الضمير عائد على هذه الأمة أي: أتل يا محمد على قومك {نَبَأَ ابنى ءادَمَ} هابيل عليه الرحمة وقابيل عليه ما يستحقه، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام لصلبه. وقال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل ويد الله تعالى مع الجماعة وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، جعل افتراق البطون نزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه، وقال: هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، فقال لهما: قربا قربانًا فمن أيكما قبل تزوجها، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض: فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل: فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قربانًا؛ فقرب هابيل جذعة، وقيل: كبشًا، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وكان ذلك علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى: {بالحق} متعلق حذوف وقع صفة لمصدر {اتل} أي أتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة، أو حال من فاعل {اتل} أو من مفعوله أي متلبسًا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقًا لما في زبر الأولين.
وقوله تعالى: {إِذْ قَرَّبَا قربانا} ظرف لنبأ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل، وجوز أن يكون متعلقًا حذوف وقع حالًا منه، ورد بأنه حينئذ يكون قيدًا في عامله وهو {اتل} المستقبل، و{إِذْ} لما مضى فلا يتلاقيان، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل. وقيل: إنه بدل من {نَبَأَ} على حذف المضاف ليصح كونه متلوًا أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، ورده في البحر بأن {إِذْ} لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ و{نَبَأَ} ليس بزمان، وأجيب بالمنع، ولا فرق بين {نَبَأَ} ذلك الوقت ونبأ {إِذْ} وكل منهما صحيح معنى وإعرابًا، ودعوى جواز الأول سماعًا دون الثاني دون إثباتها خرط القتاد، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرهما كالحلوان اسم لما يحلى أي يعطى، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر، وقيل: تقديره إذ قرب كل منهما قربانًا {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} وهو هابيل {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} لأنه سخط حكم الله تعالى، وهو عدم جواز نكاح التوأمة {قَالَ} استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل: قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي، وقيل: على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء {لاَقْتُلَنَّكَ} أي والله تعالى لأقتلنك بالنون المشدة، وقرئ بالمخففة.
{قَالَ} استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى حسد أخيه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} أي القربان والطاعة {مِنَ المتقين} في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم، وليس المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب إنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ا وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.
وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده الكناية عن أن لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعًا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين}.