فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (31):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}
{فَبَعَثَ الله غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ} أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه؛ وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه السلام، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له نقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتًا. والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكًا ظهر في صورة الغراب والمستكن في يريه لله تعالى أو للغراب، واللام على الأول متعلقة ببعث حتمًا، وعلى الثاني بيبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضًا، و{كَيْفَ} حال من الضمير في {يوارى} قدم عليه لأن له الصدر، وجملة {كَيْفَ يُوَارِى} في محل نصب مفعول ثان ليرى البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن يريه عنى يعلمه إذ لو جعل عنى الإبصار لم يكن لجملة {كَيْفَ يُوَارِى} موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له وفيه نظر، والبحث في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقًا أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد بالسوأة جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير {أَخِيهِ} عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكًا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه: {قَالَ يَاءادَمُ} كلمة جزع وتحسر، والويلة كالويل الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه، والألف بدل من ياء المتكلم أي يا ويلتى، وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك {ياويلتا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب} تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع كونه أشرف منه {فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى} عطف على {أَكُونَ} وجعله في الكشاف منصوبًا في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان: {أَنَّهُ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ}، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلامًا ظاهريًا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال: فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة فلا قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببًا، أو تنزيله منزلة من جعله سببًا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل: في توجيه ذلك أن الاستفهام للإنكار وهو عنى النفي وهو سبب، والمعنى إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لابد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال الشهاب: والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضًا، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضًا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل عجزت بلم اهتد، وقد قال في التسهيل: إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.
ولعل الأمر بالتأمل الإشارة إن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو عنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في تأويل عجزت بلم أهتد هنا فليفهم، وقرئ {أَعَجَزْتُ} بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز، وقرئ فأواري بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد، واعترضه في البحر {بِأَنَّ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَدًا رّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} انتهى، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر.
{فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} أي صار معدودًا من عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يومًا أو سنة أو أكثر على ما قيل وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبرئ أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة.

.تفسير الآية رقم (32):

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
{مِنْ أَجْلِ ذلك} أي ما ذكر في تضاعيف القصة، و{مِنْ} ابتدائية متعلقة بقوله تعالى: {كَتَبْنَا} أي قضينا، وقيل: بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، و{كَتَبْنَا} استئناف، واستبعده أبو البقاء وغيره. والأجل بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرئ به لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرئ بنقل الفتحة إليها في الأصل الجناية يقال: أجل عليهم شرًا إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جرّ عليهم جريرة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره. {على بَنِى إسراءيل} وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم. وقيل: إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانًا فيه وتماديًا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل: بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون. ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغني عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن تأبى ذلك {أَنَّهُ} أي الشأن {مَن قَتَلَ نَفْسًا} واحدة من النفوس الإنسانية {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص، والباء للمقابلة متعلقة بقتل، وجوز أن تتعلق حذوف وقع حالًا أي متعديًا ظالمًا {أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض} أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلًا، وهو عطف على ما أضيف إليه غير والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل: من قتل بغير أحدهما: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعًا} لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه، وقرئ أو فسادًا بالنصب بتقدير أو عمل فسادًا أو فسد فسادًا {وَمَنْ أحياها} أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها. أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ، و{مَا} في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها، و{جَمِيعًا} حال من {الناس} أو تأكيد، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس.
{وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات} أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدًا لوجوب مراعاته وتأييدًا لتحتم المحافظة عليه. والجملة مستقلة غير معطوفة على {كَتَبْنَا} وأكدت بالقسم لكمال العناية ضمونها، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم إلخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة. {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن، و{ثُمَّ} للتراخي في الرتبة والاستبعاد {فِى الأرض} متعلق بقوله تعالى: {لَمُسْرِفُونَ} وكذا بعد فيما قبل، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم مبالاة به، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزمًا لتفريطهم في شأن الإحياء وجودًا وعدمًا وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ الحق بالشرك، وقيل: إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما، وإنما قال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهم قليل من كثير، وذكر الأرض مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمرًا مخصوصًا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالًا من الفساد المبيح للقتل، فقال جل شأنه:

.تفسير الآية رقم (33):

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}
{إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} ذهب أكثر المفسرين كما قال الطبرسي، وعليه جملة الفقهاء إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام كما قال الجصاص على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل: ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له وترفيعًا لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدًا على تمهيد، وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال: حربه إذا سلبه، والمراد به هاهنا قطع الطريق؛ وقيل: الهجوم جهرة بالصوصية وإن كان في مصر {وَيَسْعَوْنَ} عطف على يحاربون، وبه يتعلق قوله تعالى: {فِى الأرض}، وقيل: بقوله سبحانه: {فَسَادًا} وهو إما حال من فاعل {يَسْعَوْنَ} بتأويله فسدين. أو ذوي فساد. أو لا تأويل قصدًا للمبالغة كما قيل، وإما مفعول له أي لأجل الفساد، وإما مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى يفسدون، و{فَسَادًا} إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر، وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء} مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى: {أَن يُقَتَّلُواْ} أي حدًا من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أولًا، والاتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي، وكذا التصليب في قوله سبحانه: {أَوْ يُصَلَّبُواْ} لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ وقيل: صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياءًا وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثًا بعد القتل، قيل: إنه يوم واحد.
وقيل: حتى يسييل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجرًا للغير عن الاقدام على مثل هذه المعصية.
وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف} أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي، وقطع الأيدي لأخذ المال، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} إن لم يفعلوا غير الاخافة والسعي للفساد، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والجسن؛ والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يومًا لحاجة ** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ويعزرون أيضًا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقًا إلى أن يتوب ويرجع. وبه قال ابن عباس. والحسن. والسدى رضي الله تعالى عنهم. وابن جبير، وغيرهم، وإليه ذهب الإمامية، وعن عمر بن عبد العزيز. وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفي عن بلده فقط، وقيل: إلى بلد أبعد، وكانوا ينفونهم إلى دهلك وهو بلد في أقصى تهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفن شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه، وإخراجه من الدنيا غير ممكن، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو ؤشد عليه.
هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه فأو للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح، وقيل: إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظًا وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى، والظاهر أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم هذا التنويع والتفصيل، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق، ورا يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام، وفيه تأمل فتأمل {ذلك} أي ما فصل من الأحكام والأجزية، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: {لَهُمْ خِزْىٌ} جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه: {فِى الدنيا} متعلق حذوف وقع صفة لخزي، أو متعلق به على الظرفية، وقيل: {خِزْىٌ} خبر لذلك و{لَهُمْ} متعلق حذوف وقع حالا من {خِزْىٌ} خبر لذلك و{لَهُمْ} متعلق حذوف وقع حالا من {خِزْىٌ} لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا، و{فِى الدنيا} إما صفة لخزي أو متعلق به كما مر آنفًا، والخزي الذل والفضيحة {وَلَهُمْ فِي الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم، واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابًا أيضًا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيًا أيضًا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشدّ من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
«من ارتكب شيئًا فعوقب به كان كفارة له» فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وههنا حقان لله تعالى والعباد، ونظر فيه.