فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (34):

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وأما ما هو من حقوق العباد كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدًّا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصًا، فانهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا.
وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصًا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيهًا فقال بعد نقله وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلًا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصًا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له ولا واجب مطلقاف، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه قصاصًا، وإن جاز أو وجوب من حيث كونه حدًا فتأمله انتهى.
وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلًا في صفة القتل قصاصًا وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور إلخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه وهو صحيح على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا إلخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصًا، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئًا من قلة التأمل انتهى.
وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانًا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانًا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصًا فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس «أن نفرًا من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية»، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} إلخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضًا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.
وأيضًا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضًا، وسبب النزول لا يصلح مخصصًا فإن العبرة كما تقرر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالًا من قريش أن يستأمنوا له عليًا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليًا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانًا، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو عناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى الله عليه وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم فَنَسُواْ حَظًّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي {إلى يَوْمِ القيامة} أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد.
{وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بما كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم {يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} بحسب الدواعي والمقتضيات {كَثِيرًا مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ} عن الناس في أنفسكم {مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} إذا لم تدع إليه داعية {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء {وكتاب} [المائدة: 15] خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعًا لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: {يَهْدِى بِهِ الله} أي بواسطته {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي من أراد ذلك {سُبُلَ السلام} وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل. وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات} وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية {إِلَى النور} وهو نور الرضا والتسليم {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16] وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى: إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية: إلى توحيد الصفات، والثالثة: إلى توحيد الذات {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعًا} فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [المائدة: 17] ويظهر ما أراد من الشؤون {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} فادّعوا بنوة الإسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} منهم فضلًا {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} [المائدة: 18] منهم عدلًا {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم قَوْمٌ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم نعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ} [المائدة: 20] أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام {العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَةَ} وهي حضرة القلب {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} في القضاء السابق حسب الاستعداد {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم} في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} [المائدة: 21] لتفويتكم أنوار القلب وطيباته {قَالُواْ يأَبَانَا موسى أَنِ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} وهي صفات النفس {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون} [المائدة: 22] حينئذٍ {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} سوء عاقبة ملازمة الجسم {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالهداية إلى الصراط السوي وهما العقل النظري والعقل العملي {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون} بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] بالحقيقة وهو الإيمان عن حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال {قَالُواْ يأَبَانَا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض {إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} [المائدة: 26] أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنى ءادَمَ} القلب اللذين هما هابيل العقل؛ وقابيل الوهم {إِذْ قَرَّبَا قربانا} وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قربانًا {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى: {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر {قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ} لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية الذي به الحياة عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة {لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ} أي إني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [المائدة: 28] أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل {إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار} وهي نار الحجاب والحرمان {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} [المائدة: 29] الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} نعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} [المائدة: 30] لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضده العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها {فَبَعَثَ الله غُرَابًا} وهو غراب الحرص {يَبْحَثُ فِي الأرض} أي أرض النفس {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى مِنْ أَخِيهِ} وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس {قَالَ يَاءادَمُ لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي واجعل لّى وَزِيرًا مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] عند ظهور الخسران وحصول الحرمان {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ} [المائدة: 32] لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي أولياءهما {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا} بتثبيط السالكين {أَن يُقَتَّلُواْ} بسيف الخذلان {أَوْ يُصَلَّبُواْ} بحبل الهجران على جذع الحرمان {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} عن أذيال الوصال {وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف} عن الاختلاف والتردد إلى السالكين {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم {ذلك لَهُمْ خِزْىٌ} وهوان {فِى الدنيا وَلَهُمْ فِي الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] لعظم جنايتهم، وقد جاء أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى وليًا فقد آذنته بالمحاربة نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.