فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلًا عن نيل الثواب {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] إلخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا لجميعهم {مَّا فِي الأرض} أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة، وهو اسم {ءانٍ} و{لَهُمْ} خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد {لَوْ}، وقيل: الخبر محذوف ويقدر مقدمًا أو مؤخرًا قولان، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت أن لهم ما في الأرض، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه: {وَمِثْلَهُ} بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: {مَعَهُ} ظرف وقع حالًا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقًا لكمال فظاعة الأمر.
واللام في قوله تعالى: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} متعلقة بما تعلق به خبر {ءانٍ} وهو الاستقرار المقدر في {لَهُمْ} وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد {لَوْ} عند الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الإفتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزمًا له، والباء في {بِهِ} متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وتوحيده لكونهما بالمعية شيئًا واحدًا، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك، وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى المعطوف أعني مثله مثله، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب

وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول {مَعَهُ} ناصبه الفعل المقدر بعد {لَوْ} تفريعًا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثني الضمير، وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير: مع مثله معه وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر {مَعَهُ} معه لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن {مَعَهُ} على هذا تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، والواو متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح بمع وكثيرًا ما يكون التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت برب فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في {مَعَهُ} عائد على {مّثْلِهِ} ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، نعم إن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو هنا {مَا} أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملًا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع أيضًا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فإن فيه تصريحًا بأن اسم الإشارة وحرف الجرف والظرف لا تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة} متعلق بالافتداء أيضًا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.
{مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك، وهو جواب {لَوْ} وترتيبه ما قال شيخ الإسلام على كون ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الإفتداء على منهاج ما في قوله تعالى: {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك فلما رآه مستقرًا عنده} [النمل: 40] حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما رآه إلخ، وما في قوله سبحانه: {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعًا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه كما هو شأن من هو بصدد أمر ما تقبل منهم فضلًا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل إلخ، والجملة الامتناعية بحالها خبر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعًا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلًا، ولعل مراده على ما ذكره القطب ما ذكره، وقال بعض المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الإصطلاحي بأن يقال: إن حالهم في حال التفصي عن العذاب نزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفًا على خبر {ءانٍ} وقيل: إنه معطوف على {إِنَّ الذين} فلا محل له من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام، وكذلك قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (37):

{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}
{يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار} فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله، كأنه قيل: فكيف يكون حالهم، أو ماذا يصنعون؟ فقيل: {يُرِيدُونَ} إلخ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار، والإرادة قيل: على معناها الحقيقي المشهور، وذلك أنهم يرفعم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به، وروي ذلك عن الحسن، وقال الجبائي: الإرادة عنى التمني أي يتمنون ذلك. وقيل: المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم، وهذا كقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77] أي يكاد ويقارب، لا يقال: كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول: الهول يومئذ ينسيهم ذلك، وعلى تقدير عدم النسيان يقال: العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه.
{وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} إما حال من فاعل {يُرِيدُونَ} أو اعتراض، وأيًا مّا كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة بما الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها، فإن الجملة الاسمية الإيجابية كما مرت الإشارة إليه كما تفيد عونة المقام دوام الثبوت، تفيد السلبية أيضًا عونة دوام النفي لا نفي الدوام، وقرأ أبو واقد {أَن يَخْرُجُواْ} بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى: {بخارجين} دون خرجين، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان. وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة»، قال يزيد الفقير: فقلت لجابر: يقول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} قال: أتل أول الآية {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ} [المائدة: 36] ألا إنهم الذين كفروا، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تزعم أن قومًا يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، ورواية أنه قال له: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم إلخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء، فحقق ما قيل: رمتني بدائها وانسلت، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقول المعتزلة تبًا لهم.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدًا.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بما كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}
{والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال، والكلام جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، وجملة عند المبرد، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأن زيدًا فأضربه أحسن من زيد فأضربه قاله الزمخشري، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب.
وتعقبه العلامة أحمد في الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته، فنقول. قال فيه: المستقرأ من وجوه القراآت أن العامة لا تتفق فيها أبدًا على العدول عن الأفصح، وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها، وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب: وأما قوله عز وجل: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عز وجل: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} ثم قال سبحانه بعد: {فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15] منها كذا، يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيًا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب، ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارًا وقصصًا، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم، وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه: {سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها} [النور: 1] قال جل وعلا في جملة الفرائض: {الزانية والزانى} ثم جاء {فاجلدوا} [النور: 2] بعد أن مضى فيهما الرفع يريد سيبويه لم يكن الاسم مبنيًا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم، وجاء الفعل طارئًا، ثم قال: كما جاء وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك {والسارق والسارقة} كأنه قال فيما فرض عليكم السارق والسارقة وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث، وقد قرأ أناس {والسارق والسارقة} بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يريد إن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيًا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويًا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القرائن مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل، والرفع متعين لا أقول أرجح حيث يبنى الاسم على كلام متقدم، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده، ألا ترى إلى قوله: لأن زيدًا فأضربه أحسن من زيد فأضربه، كيف رجح النصب على الرفع، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، ثم حقق سيبويه هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره كما أعربه الزمخشري فالملخص على هذا أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين، أحدهما: ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر: قوي بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه الله تعالى ورضي عنه. انتهى.
والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة، وقيل: زائدة وكذا على الوجه الضعيف، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين: زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء أيضًا كما قال ابن جني لما في الكلام من معنى الشرط، ولذا حسنت مع الأمر لأنه عناه، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إذ أردتم حكم السارق والسارقة فاقطعوا إلخ، ولذا لم يجز زيدًا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيًا، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأنه لا يدل على الوجوب المراد، وقال أبو حيان: إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما فاقطعوا، وقيل: إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وليس بشيء، وا ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ما قيل: إن سبب الخلاف السابق في مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولًا بما يقبل مباشرة أداة الشرط، وغيرهما لا يشترط ذلك، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ.
والسرقة أخذ مال الغير خفية، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعدًا، وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم، واختاره أبو علي الجبائي، قيل: يجب القطع في القليل والكثير وإليه ذهب الخوارج والمراد بالأيدي الأيمان كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أيمانهما ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكتفاءًا بتثنية المضاف إليه كذا قالوا قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت: أشبعت بطونهما علم أن للإثنين بطنين فقط. وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر؛ واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقْطع هو المنكب، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستدلوا عليه أيضًا بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعي، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحرث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه».
والمخاطب بقوله سبحانه: {فاقطعوا} على ما في البحر الرسول صلى الله عليه وسلم أو ولاة الأمور كالسلطان ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبًا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.
{جَزَاء} نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء، أو على أنه مصدر لاقطعوا من معناه، أو لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالًا من فاعل اقطعوا مجازين لهما {ا كَسَبَا} بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى: {نكالا} مفعول له أيضًا ما قال أكثر المعربين وقال السمين: منصوب كما نصب {جَزَاء}، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر عنى بعامل واحد وهو ممنوع، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبي وبعض المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعارًا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولًا له متداخلًا كالحال المتداخلة، وبه أيضًا يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام الملة: إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما كما في هذا خلو حامض والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا اتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسًا، وقوله تعالى: {مِنَ الله} متعلق حذوف وقع صفة لنكالًا أي نكالًا كائنًا منه تعالى: {والله عَزِيزٌ} في شرع الردع {حَكِيمٌ} في إيجاب القطع، أو عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي حكيم في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.
ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى عنه أنه قرأ والسرق والسرقة بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل: في توجيهها أنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث؛ فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض الملحد المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار

تحكم ما لنا إلا السكوت له ** وأن نعوذ بمولانا من النار

فأجابه ولله دره علم الدين السخاوي بقوله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ** ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

وفي الأحكام لابن عربي: أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول: شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني: مؤكد للنسخ.