فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (42):

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}
{سماعون لِلْكَذِبِ}، وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْىٌ} [المائدة: 41] إلخ أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة، وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما. {أكالون لِلسُّحْتِ} أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتًا عند الزجاج لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبًا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارًا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا على المشهور: الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم» وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هدايا الأمراء سحت» وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم قال: ذاك الكفر، وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ست خصال من السحت: رشوة الإمام وهي أخبث ذلك كله وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن»، وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.
قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، وجاء من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما» ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطًا بأمان الله تعالى حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين ؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية حدًا لئلا يتوصل بها إلى الإرتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملى لهم فيزدادوا إثمًا».
هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب {السحت} بضمتين، وهما لغتان كالعنق والعنق. وقرئ {السحت} بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد عنى المصيد، و{السحت} بفتحتين و{السحت} بكسر السين.
{فَإِن جَاءوكَ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات {فاحكم بَيْنَهُمْ} بما أراك الله تعالى: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا كما ترى تخيير له صلى الله عليه وسلم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بما أَنزَلَ الله} [المائدة: 49] وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص في كتاب الأحكام أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى وروي ذلك عن ابن عباس وإليه ذهب أكثر السلف، قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كان أولًا مخيرًا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم عنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضًا. وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه في بعض ذلك محمد وزفر، وليس له عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في الفروع.
{وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلى الله عليه وسلم بينهما، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك {فَلَن يَضُرُّوكَ} بسبب ذلك {شَيْئًا} من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} أي بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال: لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم إن صح يراد منه لازم المعنى {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
{وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه: {وَعِندَهُمُ التوراة} حال من فاعل {يُحَكّمُونَكَ}، وقوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ الله} حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفًا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد كما قال السمين على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة مرفوعًا بالظرف المصدّر بالواو محل نظر،، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن سيبويه. وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وأنثت التوراة معاملة لها بعد التعريب معاملة الأسماء العربية الموازنة لها كموماة ودوداة.
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عطف على {يُحَكّمُونَكَ} داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وإن كان محلًا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، و{ثُمَّ} للتراخي في الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا، والأول أولى. وقوله سبحانه: {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب، وقوله عز وجل: {وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين} تذييل مقرر لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدًا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماءًا إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي: وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولًا وعن حكمك الموافق له ثانيًا، أو بك وبه، وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبحكمه أصلًا. وقيل: المعنى وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكمًا بهم.

.تفسير الآية رقم (44):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بما اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
{إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة} كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه {فِيهَا هُدًى} أي إرشاد للناس إلى الحق {وَنُورٌ} أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وقال الزجاج: {فِيهَا هُدًى} أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم {وَنُورٌ} أي بيان أنّ أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجًا أوليًا ما ذكره الزجاج من الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناءًا على أن النور مقول بالتشكيك، وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بناءًا على ما قال الزجاج باعتبار كون الأمر المبين متعلقًا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرًا، والظرف خبر مقدم، و{هُدًى} مبتدأ، والجملة حال من {التوراة} أي كائنًا فيها ذلك، وكذلك جملة {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} في قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا بنى الإستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة، والمراد: يحكم بأحكامها النبيون.
{الذين أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين كما قيل على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه ابن المنير: بأن المدح إنما يكون غالبًا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلًا مسلمًا؛ فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه والله تعالى أعلم أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويهًا بقدر موصوفها،... وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويهًا قدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، وبعثًا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} [غافر: 7]، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيمًا لقدره، وبعثًا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟ا وهم عند ربهم كما في الخبر، ثم قال جل وعلا: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك والله تعالى أعلم جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهًا به، ولقد أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله:
ما إن مدحت محمدًا بمقالتي ** لكن مدحت مقالتي بمحمد

والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقِّه إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة؛ فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ** در مقاصيرها زبرجدها

فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها، والله تعالى الموفق للصواب. انتهى. وفي المفتاح والتخليص إشارة إلى ما ذكره، وإيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب، نعم قد يقال: إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود بأنهم عزل عن الإسلام، على أنه قد ورد في الفصيح بل في الأفصح ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات، ومن ذلك {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] حيث كان متضمنًا نكتة، وقال عصام الملة: إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه، ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارًا نشأ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولا يخرم، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم خارج عن هذا المسلك انتهى، وفيه تأمل، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد، ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم.
{لِلَّذِينَ هَادُواْ} أي تابوا من الكفر كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه والمراد بهم: اليهود كما قال الحسن والجار إما متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضًا بإسقاط التبعة عنه، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين، وقيل: من باب {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وإما متعلق بأنزلنا ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر، وقيل: بأنزل على صيغة المبني للمفعول، وحذف لدلالة الكلام عليه، وتكون الجملة حينئذٍ معترضة، وعلى هذا تكون الآية نصًا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم، وقيل: الجار متعلق بهدى ونور وفيه فصل بين المصدر ومعموله، وقيل: متعلق حذوف وقع صفة لهما أي هدى ونور كائنان لهما، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله.
{والربانيون والاحبار} أي العباد والعلماء قاله قتادة، وقال مجاهد: الربانيون العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار، وعن ابن زيد الربانيون الولاة، والأحبار العلماء، والواحد: حبر بالفتح والكسر، قال الفراء: وأكثر ما سمعت فيه الكسر، وهو مأخوذ من التحبير والتحسين، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه، ومن ذلك الحبر بكسر الحاء لا غير لما يكتب به، وهذا عطف على {النبيون} أي هم أيضًا يحكمون بأحكامها، وتوسيط المحكوم لهم كما قال شيخ الإسلام بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: {ا استحفظوا} أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها، والجار متعلق بيحكم، وما موصولة، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والأحبار.
وقوله تعالى: {مِن كتاب الله} بيان لما وفي الإبهام والبيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتًا وإضافة، وفيه أيضًا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها، والباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضًا بالتوراة بسبب ما حفظوه من كتاب الله حسا وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظًا، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له، وتوهم بعضهم أن ما عنى أمر، و{مِنْ} لتبيين مفعول محذوف لاستحفظوا والتقدير بسبب أمر استحفظوا به شيئًا من كتاب الله وهو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله تعالى، وقيل: الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغنى عن تقدير العائد، وحينئذٍ لا يتأتى القول بأن {مِنْ} بيان لها، ومن الناس من جوز كون {ا} بدلًا من بها، وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضًا وإن لم يطل، ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم، فالمستحفظ حينئذٍ هو الله تعالى، وحديث الأبناء لا يتأتى إذ ذاك، وقيل: إن {الربانيون} فاعل بفعل محذوف والباء صلة له، والجملة معطوفة على ما قبلها، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير.
{وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} عطف على {استحفظوا} ومعنى شهداء رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شهداء عليه أنه حق. ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون {الربانيون والاحبار} رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة، وهو كما ترى ليس فيه مزيد معنى، وإرجاع ضمير {كَانُواْ} للنبيين مما لا يكاد يجوز، وقيل: عطف على {يُحْكِمُ} المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى.
وكانوا شهداء عليه، ويجوز على هذا بلا خفاء أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفي منه، وأمر التعدي بعلى سهل، ولعل المراد به شيء وراء الحكم، وقيل: الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه، والعطف إما على {استحفظوا} أو على {يُحْكِمُ} وتوهم عبارة البعض حيث قال وبسبب كونهم شهداء أن العطف على ما الموصولة فيؤوّل {كَانُواْ} بالمصدر، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفًا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا، وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلًا تحت الطلب فكما ترى، وإرجاع ضمير {عَلَيْهِ} إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر ولا قرينة عليه، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه، وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة.
{فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدى والكلبي، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة، والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار فلا تخشوا الناس كائنًا من كان، واقتدوا في مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد {واخشون} في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلًا عن التعرض لها بسوء {وَلاَ تَشْتَرُواْ} أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم {الله ثَمَنًا قَلِيلًا} من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية، فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لاسيما بالنسبة إلى ما يفوتهم خالفة الأمر، وذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبئ عنه كلام الشعبي.
وعن ابن مسعود وهو الوجه كما في الكشف أنه عام، والفاء على الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار، وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين، والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضًا، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أَنزَلَ الله} من الأحكام {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى {مِنْ} والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه: {هُمُ الكافرون} ويجوز أن يكون {هُمْ} ضمير فصل، و{الكافرون} هو الخبر، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير.
واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال بها أن كلمة {مِنْ} فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل الفاسق المصدق أيضًا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملًا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، وأيضًا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره، وأيضًا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما أنزل الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون}. و{الظالمون} و{الفاسقون} في اليهود خاصة، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أَنزَلَ} إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فلانكارهم ذلك وصفوا بالكافرين ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظالمين ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفاسقين أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها: لهذه الأمة.
والثانية: في اليهود. والثالثة: في النصارى، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالًا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل: إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه. ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة كفر دون كفر، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ، أو يلتزم أحد الجوابين، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضًا عند بعض المحققين، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين، وما أخرجه الحاكم وصححه. وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أن الآيات الثلاثة ذكرت عنده فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرّة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك يحتمل أن يكون ذلك ميلًا منه إلى القول بالعموم، ويحتمل أن يكون كما قيل: ميلًا إلى القول بأن ذلك في المسلمين، وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال: كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك.
هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال: {مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية {وجاهدوا فِي سَبِيلِهِ} حو الصفات والفناء في الذات {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35] أي لكي تفوزوا بالمطلوب، وقيل: ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله:
أيا جود معن ناج معنًا بحاجتي ** فليس إلى معن سواه شفيع

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} أي ما في الجهة السفلية {جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة} الكبرى {مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: 36] لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية من المعارف والحقائق النورية {والسارق والسارقة} أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة {جَزَاء بما كَسَبَا} من تناول ما لا يحل تناوله لها {نكالا} [المائدة: 38] أي عقوبة من الله عز وجل: {سماعون لِلْكَذِبِ} ووساوس شيطان النفس {سماعون لِلْكَذِبِ سماعون} وهم القوى النفسانية {لَمْ يَأْتُوكَ} أي ينقادوا لكم، أو {سماعون لِقَوْمٍ} يسنون السنن السيئة {يُحَرّفُونَ الكلم} وهي التعينات الالهاية {مِن بَعْدِ مواضعه} فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة كمن يؤوّل القرآن والأحاديث على وفق هواه وليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادًا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك فإنه كفر صريح، وإنما نقول: المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضًا منها {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا} قال ابن عطاء: من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه {أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] أي بالمراقبة والمراعاة، وقال أبو بكر الوراق: طهارة القلب في شيئين: إخراج الحسد والغش، وحسن الظن بجماعة المسلمين {أكالون لِلسُّحْتِ} وهو ما يأكلونه بدينهم {فَإِن جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ} مداويًا لدائهم إن رأيت التداوي سببًا لشفائهم {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} [المائدة: 42] أي داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم، والكلام في باقي الآيات ظاهر والله تعالى الموفق.