فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (47):

{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بما أَنزَلَ الله فِيهِ} أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكمًا بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها كما قرره شيخ الإسلام قدس سره واختار كونه أمرًا مبتدأ الجبائي، وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على {ءاتيناه} [المائدة: 46] أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل؛ وحذف القول لدلالة ما قبله عليه كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ} [الرعد: 23، 24] واختار ذلك علي بن عيسى.
وقرأ حمزة {وَلْيَحْكُمْ} بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة، والمصدر معطوف على {هُدًى وَمَوْعِظَةً} [المائدة: 46] على تقدير كونهما معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق حذوف على الوجه الأول في {هُدًى وَمَوْعِظَةً} أي وآتيناه ليحكم إلخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم من جوز العطف بناءًا على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقًا بأنزل ليصح كونه علة لايتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر. وعن أبي علي أنه قرأ وأن ليحكم على أن أن موصولة بالأمر كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن أن تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل أن المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف، وذكر فيه نقلًا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بما أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلًا بالشرع مأمورًا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضًا حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به» وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي «الملل والنحل» للشهرستاني: «جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام لا يحتضن أحكامًا ولا يستبطن حلالًا وحرامًا، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام»، وحمل المخالف هذه الآية على: وليحكموا بما أنزل الله تعالى فيه إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابًا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية وهو القرآن العظيم فاللام للعهد، والجملة عطف على {أَنزَلْنَا} [المائدة: 44] وما عطف عليه، وقوله تعالى: {بالحق} حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسًا بالحق والصدق، وجوز أن يكون حالًا من فاعل {أَنزَلْنَا}، وقيل: حال من الكاف في {إِلَيْكَ} وقوله تعالى: {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حال من {الكتاب} أي حال كونه مصدقًا لما تقدمه، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالًا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد، وأوجب كونه حالًا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، وقوله سبحانه: {مّنَ الكتاب} بيان {لَّمًّا} واللام فيه للجنس بناءًا على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابًا بالنسبة إليها. ويجوز كما قال غير واحد أن تكون للعهد نظرًا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويًا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي أيضًا حيث خص بما عدا القرآن.
{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال الخليل وأبو عبيدة: أي رقيبًا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم: أي شاهدًا عليه بأنه الحق، والعطف حينئذ للتأكيد؛ وهاؤه أصلية، وفعله هيمن، وله نظائر بيطر وخيمر وسيطر وزاد الزجاج: بيقر، ولا سادس لها، وقيل: إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن كهراق وقال المبرد وابن قتيبة: إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى، فصغر وأبدلت همزته هاءًا، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر، وكذا كل اسم معظم شرعًا، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ {مهيمنا} بفتح الميم على بنية المفعول فضمير {وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ} على هذا يعود على الكتاب الأول، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9].
{فاحكم بَيْنَهُمْ} أي بين أهل الكتاب كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فاحكم بينهم {ا أنزَلَ الله} أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية، وتقديم {بَيْنَهُمْ} للاعتناء بتعميم الحكم لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيهًا على علية ما في حيز الصلة للحكم، وترهيبًا عن المخالفة، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارًا.
{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الزائغة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم {عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} الذي لا محيد عنه، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل: لا تعدل عما جاءك من الحق متبعًا لأهوائهم، وقيل: حذوف وقع حالًا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلًا عما جاءك، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك، واعتراض ذلك بأن ما وقع حالًا لابد أن يكون فعلًا عامًا، ولعل القائل لا يسلم ذلك، و{مِنْ} كما قال أبو البقاء: متعلقة حذوف وقع حالًا من مرفوع {جَاءكَ} أو من ما، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة من مجيء الحق إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الاهواء، والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، فلا يقال: كيف نهى صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك، وقيل: الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد سائر الأحكام.
{لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلى الله عليه وسلم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب كما قال جماعة من المفسرين للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب، والشرعة بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها الدين، واستعمالها فيه نكونه سبيلًا موصلًا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية.
وقال الراغب: سمي الدين شريعة تشبيهًا بشريعة الماء من حيث إنَّ من شرع في ذلك على الحقيقة المصدوقة روي وتطهر، قال: وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: {وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما عنى واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول الحطيئة:
وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وقيل: الشرعة الطريق مطلقًا سواء كان واضحًا أم لا، وقيل: المنهاج الدليل، وقيل: الشرعة النبي صلى الله عليه وسلم والمنهاج الكتاب، وقيل: الشرعة الأحكام الفرعية، والمنهاج الأحكام الاعتقادية وليس بشيء، واللام متعلقة بجعلنا المتعدية لواحد، وهوإخبار بجعل ماض لا إنشاء، وتقديمها عليه للتخصيص، و{مّنكُمْ} متعلق حذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل أي: ولكل أمة كائنة منكم أيها الأمم الباقية، والخالية عيَّنَّا ووضعنا شرعة ومنهاجًا خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في التوراة، والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث أحمد عليه الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه، وأوجب أبو البقاء تعلق {مّنكُمْ} حذوف تقديره أعني، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام، ويوجب أيضًا أن يفصل بين {جَعَلْنَا} ومعموله وهو شرعة، وقال شيخ الإسلام: لا ضير في توسط {جَعَلْنَا} بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السموات والأرض} [الأنعام: 14] إلخ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر، وقيل: إنه للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق ولا اللحاق.
واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم، واللام للاختصاص، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كان متعبدًا بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص. وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري نع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة الحصر لما ذكر مع تقدم المتعلق، وأيضًا إن الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا بشرع من قبلنا لأن القائلين به يدّعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقًا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] إلخ، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها، والتحقيق في هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث إنها شرعة للأولين.
{وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومفعول {شَاء} محذوف تعويلًا على دلالة الجزاء عليه، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم إلخ، وقيل: المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، وروي عن الحسن نحو ذلك، وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيًا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة {ولكن لّيَبْلُوَكُمْ} متعلق حذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم. {فِى} من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها مايعود نفعه لكم في معاشكم ومعادكم، أو تزيغون عنها. وتبتغون الهوى. وتشترون الضلالة بالهدى، وبهذا كما قال شيخ الإسلام اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء، بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشًا ومعادًا كما ينبئ عنه قوله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازًا للفرصة وإحرازًا لفضل السبق والتقدم، فالسابقون السابقون أولئك المقربون.
وقوله تعالى: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد، و{جَمِيعًا} حال من الضمير المجرور، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبني للفاعل، أو لما لم يسم فاعله، وإما الاستقرار المقدر في الجار، وقيل وفيه بعد إن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم {فَيُنَبّئُكُم بما كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا من أمر الدين، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر.