فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}
{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين ءامَنُواْ} أي ومن يتخذهم أولياء، وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لما مر في الآية السابقة من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبئ عنه قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} حيث أضيف الحزب أي الطائفة والجماعة مطلقًا أو الجماعة التي فيها شدة إليه تعالى خاصة؛ وفي هذا على رأي وضع الظاهر موضع الضمير أيضًا العائد إلى {مِنْ} أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى تعظيمًا لهم وإثباتًا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون. والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين.

.تفسير الآية رقم (57):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}
{الغالبون ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية، ورتب سبحانه النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميمًا للحكم وتنبيهًا على العلة وإيذانًا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة، والهزؤ كما في الصحاح السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به عن الأخفش واستهزأت به وتهزأت وهزأت به أيضًا هزؤًا ومهزأة عن أبي زيد ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به، وهَزَأةً بالتحريك يهزأ بالناس، وذكر الزجاج أنه يجوز في {هُزُوًا} أربعة أوجه: الأول: هزؤ بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود، والثاني: هزو بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوًا لانضمام ما قبلها، والثالث: هزأ بإسكان الزاي مع الهمزة، والرابع: هزى كهدى، ويجوز القراءة بما عدا الأخير، واللعب بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب، واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين، والتلعاب مصدر لعب كسمع، وهو ضد الجد كما في القاموس وفي مجمع البيان هو الأخذ على غير طريق الجد، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي يقال: لعب كسمع ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة، والمصدران: إما عنى اسم المفعول، أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة.
وقوله تعالى: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} في موضع الحال من {الذين} قبله، أو من فاعل اتخذوا والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم هزوًا ولعبًا {والكفار} أي المشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول، وعليه لا تصريح باستهزائهم هنا، وإن أثبت لهم في آية {إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] إذ المراد بهم مشركو العرب، ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللًا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداءًا، وقرأ الكسائي وأهل البصرة {والكفار} بالجر عطفًا على الموصول الأخير، ويعضد ذلك قراءة أبيّ ومن الكفار وقراءة عبد الله ومن الذين أشركوا فهم أيضًا من جملة المستهزئين صريحًا، وقوله تعالى: {أَوْلِيَاء} مفعول ثان للاتتخذوا والمراد جانبوهم كل المجانبة {واتقوا الله} في ذلك بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولًا أوليًا {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حقًا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}
{وَإِذَا ناديتم} أي دعا بعضكم بعضًا {إِلَى الصلاة اتخذوها} أي الصلاة، أو المناداة إليها {هُزُوًا وَلَعِبًا}. أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعًا وسجدًا استهزأوا بهم وضحكوا منهم، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي أشهد أن محمدًا رسول الله قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله، والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارًا لكمال شقاوتهم {ذلك} أي الاتخاذ المذكور {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} فإن السفه يؤدي إلى الجهل حاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة.
قيل: وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، واعترض بأن قوله سبحانه: {وَإِذَا ناديتم} لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال: حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرًا له، قال في الكشف أقول فيه: إن اتخاذ المناداة هزؤًا منكر من المناكير لأنها من معروفات الشرع، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي كانوا عليها حق مشروع منه تعالى، وهو المراد بثبوته بالنص بعد أن ثبت ابتداءًا بالسنة ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث بطوله، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة، والمائدة من آخر القرآن نزولًا، وقوله: لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لا مؤثرات وموجبات؛ وترادف المعرفات لا ينكر انتهى، ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه من المكابرة الظاهرة، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه: حي على الصلاة حي على الفلاح.

.تفسير الآية رقم (59):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}
{قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن تولي المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر، ووصفوا بأهلية الكتاب تمهيدًا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} أي هل تنكرون وتعيبون منا، وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حدّ ضرب، وقرأ الحسن {تَنقِمُونَ} بفتح القاف من حدّ علم، وهي لغة قليلة، وقال الزجاج: يقال: نقم بالفتح والكسر، ومعناه بالغ في كراهة الشيء، وأنشد لعبد الله بن قيس:
ما نقموا من بني أمية ** إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وفي النهاية: يقال: نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حدّ السخط، ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة، ومنه حديث الزكاة «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله تعالى» أي ما ينقم شيئًا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لا يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

وهو كما قال الشهاب: مما يعدي ن، وعلى وقال أبو حيان: أصله أن يتعدى بعلى، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا فعل عنى افتعل. ولم يذكر له مستندًا في ذلك.
{إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن المجيد. {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{وَأَنْ أَكْثَرُهُمْ فاسقون} أي متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى، والواو للعطف وما بعدها عطف على {مِنَّا إِلاَّ}. واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له لتنقمون والمفعول به الدين، وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة، فإن اتخاذ الدين هزوًا ولعبًا عين نقمه وإنكاره، والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه، خلا أنه أبرز في معرض علة نقمهم له تسجيلًا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبًا لنقمه مع كونه في نفسه موجبًا لقبوله وارتضائه، فالاستثناء على هذا من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به، وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئًا ولا أرى فيه بأسًا، وقيل: العطف على {مِنَّا إِلاَّ} باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما يلزمهما من المخالفة، فكأنه قيل: هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وقيل: العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم كافرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله.
وقيل: العطف على علة محذوفة، وقد حذف الجار في جانب المعطوف، ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: هو منصوب بفعل مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر مقدمًا عند بعض لأن {ءانٍ} المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر.
وقال أبو حيان: إنَّ {ءانٍ} لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط، وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، والجملة على التقديرين حالية، أو معترضة أي وفسقكم ثابت أو معلوم، وقيل: الواو عنى مع أي هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم إلخ؟ وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لابد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين، نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة في الوجود مستدلًا بقولهم: سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس، وبحث فيه بأن ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو عنى مع، فليكن الواو عنى مع من غير أن يكون مفعولًا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف. وقيل: الواو زائدة {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ} إلخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون. وقرأ نعيم بن ميسرة وإن أكثركم بكسر الهمزة، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين، والمراد بالأكثر من لم يؤمن {وَمَا ءامَنَ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا}.

.تفسير الآية رقم (60):

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}
{قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك} تبكيت لأولئك الفجرة أيضًا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ماهم عليه من الدين المحرف، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد، وخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمرًا خطرًا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم، واعتبرت الشرّية بالنسبة إليه مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر من كل شر، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصًا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها ألبتة لجواز كون العيب من جهة العائب:
فكم من عائب قولًا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم

وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها، وقيل: إنما قال: {بُشّرَ} لوقوعه في عبارة المخاطبين، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال: أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى. وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، ثم قالوا كما في رواية الطبراني لا نعلم دينًا شرًا من دينكم، فأنزل الله تعالى الآية، وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين بأنبئكم هم أهل الكتاب. وقال بعضهم: المخاطب هم الكفار مطلقًا، وقيل: هم المؤمنون، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك، فالجمهور على ما قدمناه، وقيل الإشارة إلى الأكثر الفاسقين، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وقيل: الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، والمراد أن السلف شر من الخلف.
{مَثُوبَةً عِندَ الله} أي جزاءًا ثابتًا عنده تعالى، وهو مصدر ميمي عنى الثواب، ويقال في الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] حيث لم يقل سبحانه ير جزاءه إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التهكم كقوله:
تحية بينهم ضرب وجيع

ونصبها على التمييز من {بُشّرَ}، وقيل: يجوز أن تجعل مفعولًا له لأنبئكم أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرئ {مَثُوبَةً} بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة ومشورة خلافًا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة.
وقوله سبحانه: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله إلخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابًا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية كما قال الزجاج إما على حالها أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل: هو دين من لعنه إلخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله إلخ. وجوز ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل أن يكون بدلًا من شر، ولابد من تقدير مضاف أيضًا على نحو ما سبق آنفًا، والاحتياج إليه هاهنا ليخرج من كونه بدل غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات.
{وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أي مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير {مِنْهُمْ} راجع إلى من باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه، وكذا الضمير في قوله سبحانه: {وَعَبَدَ الطاغوت} فإنه عطف على صلة من كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولًا محذوفًا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب {جَعَلَ} أي وجعل منهم من عبد إلخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد بالطاغوت عند الجبائي العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى.
والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام: وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعن الله وغضب عليه إلخ لرا فهم أن عليه الشرية هو المجموع انتهى.
وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلًا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي، وأن كون الاتصاف باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود بة في حيز المنع، كيف وهم يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] إلا أن يقال: إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة، وقيل: قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم؛ وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالًا، وهذا أيضًا غير ظاهر على مذهب الجبائي، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعدما قال: والمراد من الطاغوت العجل، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، فيعم الحكم دين النصارى أيضًا، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراط الفريقين في تلك العقوبات انتهى، فتدبر حقه.
وفي الآية كما قال جمع: عدة قراآت اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ، فقرأ الجمهور غير حمزة {عَبْدُ} على صيغة الماضي المعلوم، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها، وقرأ حمزة {وَعَبَدَ الطاغوت} بفتح العين وضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت على أن عبد واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري: معناه الغلو في العبودية، وأنشد عليه قول طرفة:
أبني لبيني إن أمكم ** أمة وإن أباكم عبد

أراد عبدًا، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا: ضمت الباء للمبالغة كقولهم للفطن والحذر: فطن وحذر، بضم العين، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم، والنصب بالعطف على القردة والخنازير وقرئ {وَعَبَدَ} بفتح العين وضم الباء وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة، والعطف على من بناءًا على أنه مجرور بتقدير المضاف، أو البدلية على ما قيل، ولم يرتض.
وقرأ أبيّ {عبدوا} بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها، والعطف مثله في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن عباد جمع عبد وعبد بالإفراد بجر {الطاغوت} ونصبه، والجر بالإضافة، والنصب إما على أن الأصل {عَبْدُ} بفتح الباء، أو {عَبْدُ} بالتنوين فحذف كقوله:
ولا ذاكرًا الله إلا قليلًا

بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان {عَبْدُ} على صيغة الماضي المجهول مع رفع {الطاغوت} على أنه نائب الفاعل، والعطف على صلة من وعائد الموصول محذوف أي: عبد فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث، فقرأ عبدت بتاء التأنيث الساكنة، والطاغوت: يذكر ويؤنث كما مر؛ وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل.
وقرأ ابن مسعود {عَبْدُ} بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية لعبد وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له، أو أنه عنى صار معبودًا كأمر أي صار أميرًا، والعائد على الموصول على هذا أيضًا محذوف، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {عَبْدُ} بضم العين والباء وفتح الدال، وجر {الطاغوت} فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع أو جمع عابد كشارف وشرف أوجمع عبد كسقف وسقف أو جمع عباد ككتاب وكتب فهو جمع الجمع أيضًا مثل ثمار وثمر.
وقرأ الأعمش أيضًا {عَبْدُ} بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر {الطاغوت} جمع عابد وعبد كحطم وزفر منصوبًا مضافًا للطاغوت مفردًا وقرأ ابن مسعود أيضًا {عَبْدُ} بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال، ونصب {الطاغوت} على حدّ:
ولا ذاكر الله إلا قليلًا

بنصب الاسم الجليل، وقرئ وعابد الشيطان بنصب عابد، وجر الشيطان بدل الطاغوت، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرئ عباد كجهال وعباد كرجال جمع عابد أو عبد، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم، وقرئ عابد بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وجر {الطاغوت}، وقرئ عابدوا بالجمع والإضافة، وقرئ {عابد} منصوبًا، وقرئ {عَبْدُ الطاغوت} بفتحات مضافًا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله:
وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا

أي عدته كإقام الصلاة، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد كخادم وخدم وقرئ أعبد كأكلب، وعبيد جمع أو اسم جمع، وعابدي جمع بالياء، وقرأ ابن مسعود أيضًا ومن عبدوا {أولئك} أي الموصوفون بتلك القبائح والفضائح وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: {شَرُّ} خبره، وقوله تعالى: {مَكَانًا} تمييز محول عن الفاعل، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم: سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه، فكأن شرهم أثر في مكانهم، أو عظم حتى صار مجسمًا. وجوّز أن يكون الإسناد مجازيًا كجري النهر، وقيل: يجوز أن يكون المكان عنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفًا، والمراد به جهنم وبئس المصير، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال، وداخلة تحت الأمر تأكيدًا للإلزام وتشديدًا للتبكيت، وجعلها جوابًا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق مما لا يكاد يستقيم.
{وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل} أي أكثر ضلالًا عن طريق الحق المعتدل، وهو دين الإسلام والحنيفية، وهو عطف على {شَرُّ} مقرر له، وفيه دلالة على كون دينهم شرًا محضًا بعيدًا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالًا مبينًا لا غاية وراءه، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقًا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك، وقيل: للتفضيل على زعمهم، وقيل: إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار. وقال بعضهم: لا مانع أن يقال: إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم.