فصل: تفسير الآية رقم (12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (12):

{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه بأن، وألا بناءً على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى ولا النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره ولإفادتها التحقيق كما قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم كان، واللام، وحرف النفي والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة ولا النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في ألا رب يوم صالح لك منهما وألا حبذا هند وأرض بها هند وألا يا قيس والضحاك سيرا وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار بـ {لاَّ يَشْعُرُونَ} على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهمًا يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقيين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلًا للاستدراك، وما يقال: من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل را يقال إنه أسوأ حالًا من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول {لاَّ يَشْعُرُونَ} محذوفًا مقدرًا بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} لإفادة لازم فائدة الخبر بناءً على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث خالفته، وفي التأويلات لعلم الهدى إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطًا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادًا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائمًا عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادًا فحيث كان إفسادًا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس} إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة كما أن {لا تفسدوا} [البقرة: 11] إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته كما قيل لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان والكاف في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتًا لمصدر محذوف أي إيمانًا كما آمن الناس وسيبويه لا يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناءً على أن الكاف لا تكون كذلك وما إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانًا مشابهًا لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونًا بالإخلاص خالصًا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقًا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضًا لدخولهم دخولًا أوليًا في الذين آمنوا فالعهد خارجي، أو خارجي ذكري، أو من آمن من أبناء جنسهم كعبد الله بن سلام كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق.
واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب؛ والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى: {وَمَا هُم ؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ** أخوها غذته أمه بلبانها

نعم إن كان معروفًا بالزندقة داعيًا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين.
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا ءامَنَ *السفهاء} أرادوا ألا يكون ذلك أصلًا فالهمزة للإنكار الإبطالي وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولًا أوليًا، وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون والسفه الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلًا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرًا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين كما هو الظاهر والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: {إِذَا} هنا عنى لو تحقيقًا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا كما قيل مثله في قوله وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مساررة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر حضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر كما ذكره في تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم ولكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم: {أَسْمِعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 46] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] من هذا القبيل أيضًا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن {أَنُؤْمِنُ} لإنكار الفعل في الحال وقولهم: {كَمَا آمَنَ السفهاء} بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام فضلًا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفي ما فيه على من اطلع على محاورات الناس قديمًا وحديثًا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} رد وأشنع تجهيل حسا أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: {لاَّ يَعْلَمُونَ} وهناك {لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور على ما قيل فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر.
ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا ففي ذلك أوجه. تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوًا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو. وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوًا، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاءً فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضًا لأن المعنى ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقًا للخداع وذلك التفوه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد بـ {مِنَ} أولًا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام ولا أقتدي به وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلومًا منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي فيجب إرادته يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبًا منه وهو أحد أربعة عشر مصدرًا للقي، وقرأ أبو حنيفة وابن السميقع {لاقوا}، وجعله في البحر عنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في {آمنا} قيل اكتفاءً بالتقييد قبل {بالله وباليوم الأخر} [البقرة: 8] وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان وسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهامًا. هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه.
{وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} من خلوت به وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ومنه {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني بـ {إلى} لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانًا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحًا خلا عنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو عنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن {إلى} هنا عنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها عنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل بإلى، والباء، ومع عنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغر وكذا الزمان وليس عنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازًا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة وضعيفان يغلبان قويًا.
والمراد بـ {شياطينهم} من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود كما قاله ابن عباس أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة وكان على عهده صلى الله عليه وسلم كثير منهم ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام.
وحمله على شياطين الجن كما قاله الكلبي مما لا يختلج بقلبي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح كما في بعض الشواذ تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدًا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبًا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر:
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها ** وشيطانة قد جن منها جفونها

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب.
{قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهامًا منهم أنهم رتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعًا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إن التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكى عنهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا: {بالله وباليوم الأخر} [البقرة: 8]. والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين، رسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ الجمهور {مَّعَكُمْ} بتحريك العين وقرئ شاذًا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} الاستهزاء الاستخفاف والسخرية، واستفعل عنى فعل تقول هزأت به واستهزأت عنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف وقول الرازي: إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم؛ وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف.
أما الأول: فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال.
وأما الثاني: وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول. وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما نحن مستهزؤن لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررًا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم: {إِنَّا مَعَكُمْ} إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدًا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه عند المحققين الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع إنما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرئ {مُسْتَهْزِءونَ} بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي.