فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}
{المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم {بِشَيْء مّنَ الصيد} أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولًا كان أو غير ماكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد. والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم وذلك قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} فهموا بأخذها فنزلت. وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار من الصيد. واختار الجبائي أن المراد بما تناله الأيدي والرماح صيد الحرم مطلقًا لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل، وقيل: ما تناله الأيدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه، وقيل: المراد بذلك ما قرب وما بعد، وذكر ابن عطية أن الظاهر أنه سبحانه خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفًا في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأيدي من فخاخ وأشباك. وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه. وتنكير «شيء» كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك ليس من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر. وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن. فمن بيانية أي بشيء حقير هو الصيد.
واعترضه ابن المنير بأنه قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مّنَ الاموال والانفس والثمرات وَبَشّرِ الصابرين} [البقرة: 155] فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض، والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفًا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثًا لهم على الصبر وحاملًا على الاحتمال. والذي يرشد إلى هذا سبق الإخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم والإنذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها.
وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه بإضعاف لا تقف عنده غاية فسبحانه اللطيف بعباده. انتهى.
وتعقبه مولانا شهاب الدين بأن ما ذكر بعينه أشار إليه الشيخ في دلائل الإعجاز لأن شيئًا إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] أو الإبهام وعدم التعيين أو التحقير لادعا أنه لحقارته لا يعرف. وهنا لو قيل: ليبلونكم بصيد تم المعنى فإقحامها لابد له من نكتة وهي ما ذكر، وأما ما أورده من الآية الأخرى فشاهد له لا عليه لأن المقصود فيه أيضًا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان {وَنَقْصٍ} معطوفًا على مجرور من لو عطف على شيء لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى. وقال عصام الملة: يمكن أن يقال: التعبير بالشيء للإبهام المكنى به عن العظمة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لافادة البعضية، ومما قدمنا يعلم ما فيه. وقرأ إبراهيم «يناله أيديكم» بالياء.
{لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي ليتعلق علمه سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقًا به لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل، وإلى هذا يشير كلام البلخي. والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه في الموضع الغائب عن الخلق فالجار متعلق بما قبله. وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من من أو من ضمير الفاعل في {يَخَافُهُ} أي يخافه غائبًا عن الخلق. وقال غير واحد: العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره. ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، وقيل: إن هناك مضافًا محذوفًا، والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى ومن على كل تقدير موصولة، واحتمال كونها إستفهامية أي ليعلم جواب من يخافه أي هذا الاستفهام بعيد. وقرئ {ليعلم} من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده إلخ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة.
{فَمَنِ اعتدى} أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد {بَعْدَ ذَلِكَ} الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة. وقيل: بعد التحريم والنهي، ورد بان النهي والتحريم ليس أمرًا حادثًا ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل: بعد الابتلاء ورد بان الابتلاء نفسه لا يصلح مدار التشديد والعذاب بل را يتوهم كونه عذرًا مسوغًا لتحقيقه.
وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل، وقال: ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى، وأنت تعلم أن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض. والمتبادر على ما قيل: أن هذا العذاب الأليم في الآخرة، وقيل: هو في الدنيا. فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدًا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضًا، وقيل: المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام. ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب فقال عز من قائل:

.تفسير الآية رقم (95):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}
{أَلِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والتصريح بالنهي مع كونه معلومًا لاسيما من قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في {الصيد} للعهد حسا سلف، وإطلاقه على غير المأكول شائع، وإلى التعميم ذهبت الإمامية، وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه:
صيد الملوك ثعالب وأرانب ** وإذا ركبت فصيدي الأبطال

وخصه الشافعية بالمأكول قالوا: لأنه الغالب فيه عرفا، وأيد ذلك بما رواه الشيخان «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور». وفي رواية لمسلم «والحية» بدل العقرب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة البحث. والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم عنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالًا، وقيل: المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرمًا بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل، وقال أبو علي الجبائي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا، وقال علي بن عيسى: لا تدل إلا على تحريم ذلك على الأول خاصة، ولعل الحق مع علي لا مع أبيه، وذكر القتل دون الذبح ونحوه للإيذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة، وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنهم، وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه، وفي القديم لا يكون في حكم الميتة ويحل أكله للغير ويحرم على المحرم.
{وَمَن قَتَلَهُ} كائنًا {مّنكُمْ} حال كونه {مُّتَعَمّدًا} أي ذاكر لإحرامه عالمًا بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة. فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وأخرج الشافعي وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال: رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ، وقال بعضهم: التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياسًا. واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه، والحنفية لا تراه، وقيل: التقييد به لأنه المورد، فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له: قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية. واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم، وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضًا على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية.
وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالمًا بالحرمة إذ ذاك. فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حرامًا في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيدًا ضربًا شديدًا، والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا، وقيل: إن العلم بالحرمة جاء من قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} [المائدة: 1] ولعله أولى. وعن داود أنه لا شيء في الخطأ أخذًا بظاهر الآية. وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير وطاوس. وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال: من قتله ناسيًا لإحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمدًا لقتله غير ناس لإحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وأخرج ابن جرير عن الحسن ومجاهد نحو ذلك، و{مِنْ} يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر؛ ويجوز أن تكون موصولة.
والفاء في قوله تعالى: {فَجَزَاء مّثْلُ نَفْسُهُ قَتْلَ} جزائية على الأول وزائدة لشبه المبتدأ بالشرط الثاني. و{جزاء} بالرفع والتنوين مبتدأ و{مَثَلُ} مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله. وجوز أبو البقاء أن يكون {مَثَلُ} بدلا؛ والزجاج أن يكون {جزاء} مبتدأ و{مَثَلُ} خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله، وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب؛ وقرأ باقي السبعة برفع {جزاء} مضافًا إلى {مَثَلُ}. واستشكل ذلك الواحدي بل قال: ينبغي أن لا يجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله. ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غاية في الشناعة، وما ذكر مجاب عنه، أما أولا فبأن {جزاء} كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني، وقد يقال لا حاجة إلى ارتكاب هذه المؤنة بأن يجعل مصدرًا مضافًا إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزي مثل أن يعطي المثل جزاء، وأما ثانيًا فبأن تجعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل، وأما ثالثًا فبأن يكون {مَثَلُ} مقحما كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا. واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط الممائلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي الممائلة مما لا يكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لا يخفى.
وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين {جزاء} ونصبه ونصب {مَثَلُ} أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء مثل ما قتل، وقرأ السلمي برفع {جزاء} منونًا ونصب {مَثَلُ} أما رفع {جزاء} فظاهر وأما نصب {مثل} فبجزاء أو بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل. وقرأ عبد الله {فَجَزَاؤُهُ} برفع جزاء مضافًا إلى الضمير ورفع {مثل} على الابتداء والخبرية. والمراد عند الإمام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث إنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه المحرم فيه أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشرى وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة فإن بلغت قيمته قيمة هدي يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعامًا فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، ولا يجوز أن يطعم مسكينًا أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعًا وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يومًا فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يومًا كاملًا لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فإن بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الإطعام والصوم وإن لم تبلغ إلا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلًا يخير بين أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يومًا كاملًا لما قلنا فيكون قوله تعالى: {مِنَ النعم} تفسيرًا للهدي المشتري بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى ثل ما قتل من النعم. ونظر فيه صاحب «التقريب» لأن قراءة رفع {جزاء} و{مثل} تقتضي أن يكون الجزاء مماثلًا من النعم للصيد فإن كان الجزاء القيمة فليس مماثلًا له منها بل الجزاء قيمة يشتري بها مماثل. وأجاب في الكشف بأن ما يشتري بالجزاء جزاء أيضًا فإن طعام المساكين جزاء بالإجماع وهو مشترى بالقيمة. والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشترى بالجزاء ولا تنافي بينهما، وادعى صاحب الهداية أن {مِنَ النعم} بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بجعل المثل عنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي، وقد ثبت كما قال أبو عبيدة والأصمعي أن النعم كما تطلق على الأهلي في اللغة تطلق على الوحشي، وكان كلام أبي البقاء حيث قال: يجوز أن يكون {مِنَ النعم} حالا من الضمير في {قَتْلَ} لأن المقتول يكون من النعم مبنيًا على هذا، وهو مع بعد إرادته من النظم الكريم خلاف المتبادر في نفسه، فإن المشهور أن النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم دون ما ذكر، وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه إذا أفردت الإبل قيل لها نعم أيضًا وإن أفردت البقرة والغنم لا تسمى نعمًا.
وقال محمد ونسب إلى الشافعي ومالك والإمامية أيضًا: المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة وفي الضبع شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدًا بالنعم فمن اعتبر القيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجهه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو داود «الضبع صيد وفيه شاة» وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الإمام الأعظم وصاحبه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فأوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى. وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ ثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليًا والقيمة إذا كان قيميًا بناء على أنه مشترك معنوي، والحيوانات من القيميات شرعًا إهدارًا للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليبًا للاختلاف الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضًا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الأداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزئ غير ذلك، وحديث التقييد بالنعم قد علمت الجواب عنه، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارًا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى: {مّثْلُ مَا قَتَلَ} وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال.
وأما قوله سبحانه: {مِنَ النعم} فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلًا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ} أي ثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس. وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد. وقد يقال: إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضًا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية. ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين قابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلًا.
وقرأ محمد بن جعفر {ذُو عَدْلٍ} وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل: إن {ذو} تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه إثنان لأنه أقل مراتبه، وفي الهداية قالوا: والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل {ذو} على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إمامًا كان أو غيره، ومن اشترط الإثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل: حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع {جزاء} وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلًا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة.
وقوله تعالى: {هَدْيًا} حال مقدرة من الضمير في {بِهِ} كما قال الفارسي أو من {جزاء} بناء على أنه خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من {مَثَلُ} فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديًا والجملة صفة أخرى لجزاء {بالغ الكعبة} صفة لهديًا لأن إضافته لفظية {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على محل {مِنَ النعم} على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام. وقوله تعالى: {طَعَامُ مساكين} عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين. وقوله سحبانه: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا} عطف على {طَعَامٌ} وذلك إشارة إليه و{صِيَامًا} تمييز. وخلاصة الآية كأنه قيل: فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفًا لازمًا للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث: فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلًا منها بدلًا عن الآخرين، وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديًا فله الخيار في أن يجعله هديًا أو طعامًا أو صومًا لأن التخيير شرع رفقًا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين. وقال محمد وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضًا إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى. واستدل كما قيل على ذلك بالآية، ووجهه أنه ذكر الهدي منصوبًا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على {مَثَلُ} في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} سواء كان حالًا منه كما قدمنا أو تمييزًا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديًا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلًا عن الضمير محمولًا على محله كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة أو وهي عند غير الشعبي والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما. وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على {هَدْيًا} وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى: {فَجَزَاء} بدليل أنه مرفوع وكذا قوله: {أَو عَدْلُ} إلخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في تقديم المتلف لا غير، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقًا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في «العناية» إشكالًا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة أو لا يفيد المطلوب إلا إذا كان {كفارة} منصوبًا على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول.
واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف {كَفَّارَةُ} على {جزاء} وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره. والآية عليه أيضًا لا تصلح دليلًا على مدعى الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير فعليه أو فالواجب عليه، ثم إذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية وهو الجذع الكبير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه كما في هدي المتعة والقران. واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال: إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك. وأجيب بأن الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته، وعند محمد يجزئ صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقًا وجفرة فدل على جواز ذلك في باب الهدي، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام، وأخرى كقول محمد وهي التي في المبسوط والأسرار وغيرهما، وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الاطعام فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليهم.
وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى: {هَدْيًا بالغ الكعبة} إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم. ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديًا على مسكين واحد كما في هدي المتعة ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب. ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم.
«ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارًا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم، ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة فيختص كان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلًا أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه»، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة. وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولًا. وفي الهداية «يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته.
ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينًا إذا كان للمقتول نظير، وأنت تعلم أنه لو سلم أن النظير هو الواجب عينًا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع، وإن اختار الصيام فعلى ما في الهداية يقوم المقتول طعامًا ثم يصوم عن طعام كل مسكين يومًا على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية وتمام البحث في الفروع. والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا، وما ذكرنا من عطف {كَفَّارَةُ} إنما هو على قراءة {جزاء} بالرفع وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة {مِنَ النعم}.
وذكر الشهاب أنه يجوز في {كَفَّارَةُ} على قراءة {جزاء} بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزئ جزاء فيكون {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطفًا على أن يجزئ وهو مبتدأ مقدم عليه خبره. وقرئ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها عنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم حديد. وقال أبو حيان: إن الطعام ليس جنسًا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدًا فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء. وقرأ الأعرج {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس. وقرئ {أَو عَدْلُ} بكسر العين، والفرق بينهما أن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور عنى المفعول، وقال البصريون: العدل والعدل كلاهما عنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره. وقال الراغب: العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء. وعلى هذا روي بالعدل قامت السموات تنبيهًا على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدًا على الآخر أو ناقصًا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظمًا.
{لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر، وقيل: بجزاء، وقيل: بصيام أو بطعام، وقيل: بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير {أَمَرَهُ} إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي، وعلى هذا لابد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته. {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثمًا ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضًا حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع.
{وَمَنْ عَادَ} إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدًا وهو محرم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعًا مثبتًا لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور، وكذا المنفي بلا، وجوز السمين أن تكون من موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ.
والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة؛ وأما الكفارة فعن عطاء وإبراهيم وابن جبير والحسن والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئًا قبله؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقًا بظاهر الآية. وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى، وقيل: معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملًا لكنه خلاف الظاهر. وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر. «وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلط ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في «المبسوط». وفي الخانية المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة. ومحمد. وقال أبو يوسف والحسن: يذبح الصيد ولو كان الصيد مذبوحًا فالصيد أولى عند الكل. ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيدًا وكلبًا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين. وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى. وفي هذا خلاف ما ذكر في «المبسوط» {والله عَزِيزٌ} غالب لا يغالب {ذُو انتقام} شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه.