فصل: تفسير الآية رقم (97):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (97):

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}
{جَعَلَ الله الكعبة} أي صيرها، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وتطلق لغة على كل بيت مربع، وقد يقال: التكعب للارتفاع، قيل: ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها، وقيل: سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض. وقوله تعالى: {البيت الحرام} عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل: جيء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية. وجوز أن يكون بدلًا وأن يكون مفعولًا ثانيًا لجعل.
وقوله سبحانه: {قِيَامًا لّلنَّاسِ} نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريبًا إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني. وقيل: {جَعَلَ} عنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال، ومعنى كونه قيامًا لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها دينًا ودنيا حيث كان مأمنًا لهم وملجأ ومجمعًا لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق ولهذا قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئًا للدنيا والآخرة أصابه، ومن ذلك أخذ بعضهم أن التجارة في الحج ليست مكروهة. وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة، وقيل: معنى كونه قيامًا للناس كونه أمنًا لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء. وقرأ ابن عامر {قَيِّمًا} على أنه مصدر كشيع وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله الفًا تبعه المصدر في إعلال عينه.
{والشهر الحرام} أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه؛ واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهو وما بعده عطف على {الكعبة} فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام {والهدى والقلائد} أيضًا قيامًا لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاء الحج بها أظهر؛ وقيل: الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل: كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحدًا، وقد توارثوا على ما قيل ذلك من دين إسماعيل عليه السلام.
{ذلك} أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد. وقيل: محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه: {وَأَنَّ الله بِكُلّ شَيْء} واجبًا كان أو ممتنعًا أو ممكنًا {عَلِيمٌ} كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد. وجوز أن يراد بما في السموات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.

.تفسير الآية رقم (98):

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}
{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك. والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة، وسمي عقابًا لأنه يستحق عقيب الذنب {وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك. ووجه تقديم الوعيد ظاهر.

.تفسير الآية رقم (99):

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)}
{مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} ولم يأل جهدًا في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد. وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه. والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك.

.تفسير الآية رقم (100):

{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}
{قُلْ} يا محمد {لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} أي الرديء والجيد من كل شيء، فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول أن المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره، وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالًا فهل ينفعني من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب. وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه.
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ} أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار {كَثْرَةُ الخبيث}. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل {لاَ يَسْتَوِى} أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى. وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه {فاتقوا الله ياأولى أُوْلِى الالباب} في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله. ولله در من قال:
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا

وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم.

.تفسير الآية رقم (101):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}
{تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلًا إذا كان متعل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والظرفاء فأشياء في الأصل شيئاء بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسي ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل. وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشياء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه افعلاء، وقيل: في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها افعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث. واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر. ورده الزجاج بأن فعلًا لا يجمع على افعلاء، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قال أبو علي في «التكملة» فقال: كيف تصغر أشياء قال أقول أشيآء فقال المازني: هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت قنع انتهى. وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم: دريهمات، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلًا من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال، ويدل على كونها بدلًا أيضًا تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم: ثلاثة أشياء فكما صارت نزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت نزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع صارت بدلًا من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفًا كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلًا من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون: ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا: ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثًا لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة: أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثًا وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله: ويدل على كونها بدلًا تذكيرهم العدد المضاف إليها إلخ ثم قال: والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز تصغير افعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار افعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف.
وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء وأسماء، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء، وقد جمعوها على أشاوى كعذراء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح. ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه. وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه صابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل، وقيل: إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذ أبدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل غير ذلك، وللشهاب عليه الرحمة:
أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا ** لامًا لها وهي قبل القلب شيئاء

وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب ** منهم وهذا لوجه الرد إيماء أو أشياء

وحذف اللام من ثقل ** وشيء أصل شيء وهي آراء

وأصل أسماء اسمًا وكمثل كسا ** فاصرفه حتمًا ولا تغررك أسماء

واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها ** حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء

وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مدهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد: إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واوًا على غير قياس كإبدالها واوًا في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضًا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعًا لقالوا شيآت على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في أمالي ابن الشجري.
{إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ} أي بالوحي كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير {عَنْهَا} راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا» فقال رجل وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس، وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثًا فقال صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.
وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال:
«لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه: فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال: رضينا بالله تعالى ربًا وبالإسلام دينًا وحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها: ما سمعت قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذٍ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدًا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج.
وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، الأول: أنها متصلة بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100] لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني: أنها متصلة بقوله سبحانه: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [المائدة: 99] أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث: أنها متصلة بقوله جل وعلا: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم.
{عَفَا الله عَنْهَا} أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا. والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولًا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلومًا للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعله وصفًا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعًا على أنه يستدعي اختصاص النهي سألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديدًا كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال:
«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار» وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذٍ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلًا، وإلى التفسير الأول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء لم يجئ فيه أثر يقول: هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية.
والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت، واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله. ثم قال: «إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة ألبتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضًا لأن إيجابها للأولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعًا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلم عبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت: لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية هي الموجبة للانتهاء لا الحيثية الثانية ولا حيثية التردد بين الإيجابين، فإن قيل: الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها فلم تخلف الإبداء في مسألة الحج ولم يفرض كل عام؟ قلنا: لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد ولا تخلف فيه.
فإن قيل: ما ذكر إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة ابن حذافة فيكون هو متعلق الإبداء لا غيره فيتعين التخلف حتمًا. قلنا: لا احتمال له فضلًا عن تعينه فإنه المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال: أين أبي؟ لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع.
وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة ألبتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدًا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معًا، ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناءً على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه»
انتهى وهو تحرير لم يسبق إليه.
{والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى.