فصل: الفائدة الرابعة: في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.الفائدة الرابعة: في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق:

اعلم أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بها أقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لأليه ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه فماء ولا كصدى ومرعى ولا كالسعدان وما كل زهر ينبت الروض طيب ولا كل كحل للنواظر إثمد فأقول إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر ولفظ الكلام موضوع لغة لثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي فالأول من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج والثاني منه كيفية في الصوت المحسوس والأول من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح والثاني كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي.
والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا} فإن قال بدل من أسر أو استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الأسرار فقيل: قال: {أنتم شر مكانا} وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وإثمد من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما أسره ابن آدم في نفسه وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} وقوله تعالى{: يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن والآيات في ذلك كثيرة ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري فقال لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن». فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها وقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي». الحديث. وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب.
فالمعنى الأول للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكملي بذكر اسمه والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقه فأزليان ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى.
والمعنى الثاني له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السموات والأرض مكشوفة له أرلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة ومن هنا قال السنيون: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالأذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشئون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه أما في مرتبة الخيال فلقوله: أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} وقول الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا يشاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له كقوله: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان الحديث والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فأرتفع الكيف بارتفاعها فالحاصل لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلي ومن حيث لا فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا بأن الله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمية ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة في خبر يوم السقيفة والأصل في الإطلاق الحقيقة فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا انفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد: ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقالة مفردة في ذلك.
ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده وأما البعرات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أنذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا ين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيقته. انتهى.
واعتراضه الدواني بوجوه قال أما أو لا فلان مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خير وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف وأما ثانيا فلان كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها وأما ثالثا فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارئ من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة فنقول هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارئ وما يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات.
وأما رابعا فلان لزوم ما ذكره من المفاسد وهم فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا أعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا أعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تفكيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أنه من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك وأما خامسا فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه بقى تلاوته. انتهى.
والجواب أما عن الأول فهو أن الحق عز أسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به وما هو أمر واحد المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة والدليل على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين وأما عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن وأما الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن أن المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ وأما الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا فإذا أنضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول بكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمى كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لأسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه وأما الخامس فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصافي أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة فقوله: وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا ومنهم من أعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقة العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول بالنص فيكون معجزة بلا شبهة والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهذا واضح لمن ساعدته العناية وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم واتحدت أغراضهم وإن اختلفت أساليبهم وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن أتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد فأقول: قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الإيجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه: إلا شاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذ قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء الأول العبارة الصادرة عنه والثاني مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها الثالث علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها.
الرابع ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع والأخير أن ليسا كلاما اتفاقا والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقى الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور الأول الإرادة والكراهة الحقيقية الثاني اللفظ الصادر عنه الثالث مفهوم لفظه ومعناه والأول ليس كلاما اتفاقا والثاني كذلك على مذهبهم فبقى الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجه الأول أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف الثاني أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناه مما لا يقبله العقل السليم الثالث أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف مدلوله في النهي ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات. انتهى.
ولا يخفى أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور ونقول على سبيل التفصيل أما الأول فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق خيالية في الخلق وأما الثاني فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين أن الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وأما الثالث فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض.
وقال النجم سليمان الطوفي: إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين أحدهما أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة الثاني أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا.
وقال المخالفون: استعمل لغة في النفسي والعبارة قلنا نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممن قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك ثم إن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة وأما قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة في أنفسهم ولو أطلق لما فهم إلا العبارة وأما قوله تعالى: {وأسروا قولكم} الآية فلا حجة فيه لأن الأسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان. انتهى. وفيه ما لا يخفى.
أما أولا فلأن ما أدعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا: نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما وأما ثانيا فلأن ما أدعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروه كلاما يحزنه وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية وأما ثالثا فلأن ما قاله في قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة في أنفسهم ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى: {يقولون بأفواههم} وفي آية: {بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} إذ لو كان مجرد ذكر في أنفسهم قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر بأفواههم وبألسنتهم قرينة على كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم نعم التقييد دليل على أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا وأما رابعا فلأن ما ذكره في قوله تعالى: {وأسروا} الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ويساعده الكتاب والأثر واللغة كما لا يخفى على المتتبع وأما خامسا فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطأ من وجوه أما أولا فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه إما اسم مصدر بمعنى ما يبين به أو مصدر بمعنى التبيين وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به إن كان المراد به التبيين القلبي أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها وأما ثانيا فلأن قوله وبتقدير أن يكون إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور.
وأما ثالثا فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة وأما رباعا فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان إلى أن قالوا القلب ملك فإذا صلح الحديث وفي حديث أبي هريرة القلب ملك وله جنود إلى أن قالوا للسان ترجمان الحديث فما قيل إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب اطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت. انتهى.
كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت أما أو لا فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم وأما ثانيا فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر وأما ثالثا فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب:
وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم

نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق كم أسهر أناسا وأكثر وسواسا وأثار فتنة وأورث محنة وسجن أقواما وأم إماما مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب وخلاصة ما ذكره الأصحاب وقد أندفع به كثير مما أشكل على الأقوام وخفي على إفهام ذوي الأفهام ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غنى زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه ثم أعلم أني بعدما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه لا ينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التكلفات وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن إتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث فيما لا يزال أقتضى أزليا إبراز ذلك البعض في الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال فهذا الاقتضاء صفة للذات هو بها في الأزل مسماة بالكلام النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث إنما يكون فيما لا يزال والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب. انتهى.
وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا روى عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت العناية بيديه هذا وإذا سمعت ما تلوناه ووعيت ما حققناه فأسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق فأقول الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل ولا يناسب في مقابلته قال وقيل فقد قال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن}، {وإذ نادى ربك موسى}، {نودي من شاطئ الوادي الأيمن}، {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى}، {نودي أن بورك من في النار ومن حولها} واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى وأخبار لا تستقصى.
روى البخاري في الصحيح يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعدكما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات.
ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى: {أن بورك من في النار} كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة وفي رواية عنه كان الله في النور ونودي من النور وفي صحيح مسلم حجابه النور وفي رواية له حجابه النار ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله: وسبحان الله أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور يا موسى إنه أي المنادي المتجلي أنا الله العزيز فلا أتقيد لعزتي ولكني الحكيم فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضته الحكمة فهو عليه السلام كليم الله تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به». الحديث. ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية كانت أو خيالية أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل ليس كمثله شيء عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك والله سبحانه يسمع السر والنجوى.
والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أو لا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة وقول الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أو لا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.
والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشأ كل ذاك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك وعنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه أندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء في فرس للحم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فمن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبني الفتوة وعليه الفتوى والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهة فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال وبعد أن رسخ الحق في قلبك وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا وكاذب لا يورثك إلا صدقا فنقول أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم اختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أن لي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث وأما الكرامية فقالوا إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق اسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله تعالى قديم وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله تعالى حادث فقوم ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم برآء منها وآخرون قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى وأناس لما رأوا مخالفة الأولين للضرورة الظاهرة التي هي أشنع من مخالفة الدليل ومخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم وجمع قالوا: كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات وكثر في حقهم القال والقيل والنزاع الطويل وبعضهم تحير فوقف وحبس ذهنه في مسجد الدهشة وأعتكف وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان ولكل مقام مقال ولكل كلام أحوال ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال الشنيعة التي هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى وليغرد بها بفائدة لعلها أولى من الإطالة وأحرى والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب لا رب غيره.