فصل: تفسير الآية رقم (105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
{يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي إلزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل. وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازمًا، والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «عليك بذات الدين» وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسمًا للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدًا قد استعمل اسمًا لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على مع الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدًا لم يجز وفيه خلاف. وقرأ نافع في الشواذ {أَنفُسَكُمْ} بالرفع، والكلام حينئذٍ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ.
وقوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة {لا}، ويحتمل أن يكون مجزومًا جوابًا للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم. وإنما ضمت الراء اتباعًا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيًا مؤكدًا للأمر السابق والكلام على حد لا أرينك هاهنا. وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ {وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ} بالفتح {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره عنى ضره كذمه وذامه، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأجيب عن ذلك بوجوه.
الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال. فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قال: «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها {يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب وفي رواية يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب».
وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال: خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية {يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} إلخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب». ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب.
والثاني: أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال: أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: {يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فقال صلى الله عليه وسلم: يا معاذ «مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحًا مطاعًا وهوى متبعًا وإعجاب كل امرئ برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذٍ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت: يا رسول الله خمسين منهم قال: بل خمسين منكم أنتم».
الثالث: أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفًا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت.
الرابع: أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة.
الخامس: أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه.
{إِلَى الله} لا إلى أحد سواه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم يوم القيامة {جَمِيعًا} بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم {فَيُنَبّئُكُمْ} بالثواب والعقاب {ا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدًا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك.

.تفسير الآية رقم (106):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)}
{خَبِيرًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية ضمونه ما لا يخفى {شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان} للشهادة معان: الإحضار والقضاء والحكم والحلف والعلم والإيصاء، والمراد بهاهنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ و{اثنان} خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم إثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة إثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل: الشهادة عنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل: الخبر محذوف و{اثنان} مرفوع بالمصدر الذي هو {شَهَادَةً} والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد إثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا عنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام. وزعم بعضهم أنها عنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول و{اثنان} قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا: إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. و{إِذَا} ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، و{حِينَ الوصية} أما بدل من {إِذَا} وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها. وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون {شَهَادَةً} مبتدأ خبره {إِذَا حَضَرَ} أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت و{حِينَ الوصية} على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفًا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره {حِينَ الوصية} و{إِذَا} منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير غير لأنها نزلة لا و{اثنان} على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدرًا أو خبرًا لشاهدان كذلك. وعن الفراء أن {شَهَادَةً} مبتدأ و{اثنان} فاعله سدَّ مسد الخبر وجعل المصدر عنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد.
و {إِذَا} و{حِينٍ} عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة {شَهَادَةً} إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرئ {تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالرفع، وقيل: إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف ما جائز نحو {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه.
وقرأ الشعبي {شهادة بَيْنِكُمْ} بالرفع والتنوين فبينكم حينئذٍ منصوب على الظرفية. وقرأ الحسن {شَهَادَةً} بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر {اثنان} فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان. وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال} [النور: 36] في قراءة من قرأ {يُسَبّحُ} بالبناء للمفعول، وقول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة

أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحدًا من هذه الثلاثة. وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في البحر وجهين للتخريج، الأول: أن تكون {شَهَادَةً} منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و{اثنان} مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيدًا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني: أن تكون مصدرًا لا عنى الأمر بل خبرًا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلًا كقوله:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم

فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفًا فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم، والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان.
{ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة، أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان {أَوْ ءاخَرَانِ} عطف على {اثنان} في سائر احتمالاته. وقوله سبحانه: {مِنْ غَيْرِكُمْ} صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين. واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص: إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولًا إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضًا سبب النزول وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
{إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي سافرتم، وارتفاع {أَنتُمْ} بفعل مضمر يفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناءً على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فجملة {ضَرَبْتُمْ} لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني.
وقوله تعالى: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيدًا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض إلخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطًا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذٍ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه.
وقوله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا} أي تلزمونهما وتصبرونهما للتحليف استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه: تحبسونهما {مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ} أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وقتادة وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان. وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله. وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت. والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر. وجعل الحسن التقييد بذلك دليلًا على ما تقدم من تفسيره. وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران؛ وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضًا قطعًا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي ولا يخفى ما فيه.
والخطاب للموصى لهم وقيل: للورثة وقيل: للحكام والقضاة.
وقوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على {تَحْبِسُونَهُمَا} {إِنِ ارتبتم} أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة. والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا} وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبًا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك: والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته هاهنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى.
وزعم بعضهم جواز كونها شرطية و{لاَ نَشْتَرِى} دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنًا قليلًا وهو بعيد جدًا وتخلو الآية عليه ظاهرًا من شرط التحليف، وضمير {بِهِ} عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلًا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضًا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفًا كاذبًا لأجل المال، وقيل: إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضًا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل: إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولابد من تقدير مضاف أيضًا، وتقدير مضاف في {ثَمَنًا} أي ذا ثمن مما لا يدع إليه إلا قلة التأميل.
{وَلَوْ كَانَ} المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي قريبًا منا. وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلًا من ذلك مالًا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها كما قال شيخ الإسلام ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل: الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدًا بشهادتنا ولو كان قريبًا منا، وجواب لو محذوف اعتمادًا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنًا، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان إلخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا. وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جوابًا للو غير ما قدرناه أي ولو كان الشاهد قريبًا يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الأقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلًا عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق.
{وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على {لاَ نَشْتَرِى بِهِ} داخل معه في حيز القسم.
وروي عن الشعبي أنه وقف على {شَهَادَةً} بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله:
أشارت كليب بالأكف الأصابع

لأن ذلك حيث لا تعويض، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف، وهل البحر به أو بالعوض قولان. وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر وابن جرير وآخرين {الله} بدون مد وفي ذلك احتمالان. الأول: أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس، والثاني: أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ ولذا اختاره في الدر المصون، وقرئ بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفًا.
{إِنَّا إِذًَا لَّمِنَ الاثمين} أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة. وقرئ {لملاثمين} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها.