فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (10):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)}
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة حذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول: إن التسلية به وا بعده من قوله تعالى: {فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلى الله عليه وسلم بعقوبة من استهزأ به عليه والسلام إن أصر على ذلك.
وحاق عنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل: حل واختاره الطبرسي، وقيل: نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل إلا في الشر كما قال:
فاوطا جرد الخيل عقر ديارهم ** وحاق بهم من بأس ضربة حائق

وقال الراغب: أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة كتظننت، وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة، والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج.
وقال الأزهري: جعل أبو إسحق حاق عنى أحاط، وكأنه جعل مادته من الحوق «بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها» وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة؛ وفيه أيضًا «حاق به يحيق حيقًا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله». وظاهره أن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي. و{مِنْهُمْ} متعلق بسخروا والضمير للرسل. ويقال: سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالًا. وقيل: السخرية والاستهزاء عنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى ن. وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق حذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية عنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء عنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار.
فعن الراغب الاستهزاء ارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتيادًا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة.
وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي ورده أبو حيان بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور. و{بالذين} متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو ما للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم. وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل. وإما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزؤون به. وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير مضاف، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة. وقيل: إن المراد من الذي كانوا يستهزؤون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف وقد اختار ذلك الإمام الواحدي. والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على أن المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاؤوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وان مثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة.
ومن الناس من زعم أن {نَخْسِفْ بِهِمُ} كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازًا وأنت تعلم أن الحيق الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي، ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه. نعم إذا قلنا: إن الإحاطة إنما تكون للأجسام دون المعاني فلابد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزاعم كما لا يخفى. وفي جمع «كانوا ويستهزؤون» ما مر غير مرة في أمثاله. و{بِهِ} متعلق بما بعده وتقديمه لرعاية الفواصل.

.تفسير الآية رقم (11):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}
خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم لسوء أفعالهم تخذيرًا لهم عما هم عليه مما يحاكي تلك الأفعال. وفي ذلك أيضًا تكملة لتسليته عليه الصلاة والسلام بما في ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين، وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازًا أظهر من الشمس يوم بدر، والمراد من النظر التفكر، وقيل: النظر بالأبصار، وجمع بينهما الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك. و{كَيْفَ} خبر مقدم لكان أو حال وهي تامة. والعاقبة مآل الشيء وهي مصدر كالعافية، والتعبير بالمكذبين دون المستهزئين قيل: للإشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء. وأورد عليه أن تعريف الذكبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع إن الاستهزاء بما جاؤوا به يستلزم تكذيبه. ولا يخفى أن مقصود القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الإشارة إليهم بهذا العنوان هنا ما لا يخفى من الإشارة إلى فظاعة ما نالهم، وقيل: إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك، وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للإيذان بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجبًا لأن الأوّل إنما يطلب للثاني كما في قولك: توضأ ثم صل، وقيل: للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع. والثاني لايجاب النظر في آثار الهالكين، ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح. وأورد عليه كما قال الشهاب أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الإخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالًا ظاهرًا.
وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادئ النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} [العنكبوت: 66]. وهذا حاصل ما قيل: إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له: إذ قد أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك: افعل ما شئت.
ولا يخفى أن انفهام ذلك من الآية في غاية البعد. وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة النمل: [69] {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ} بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة آنفًا، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر. ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية. ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه أيضًا.
وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: {ثُمَّ انظروا} وفي غير ما موضع {فانظروا} [آل عمران: 137، النمل: 36، العنكبوت: 20، الروم: 42] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِي الأرض} مع قوله سبحانه وتعالى: {وأنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين} [الأنعام: 6] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضًا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الاخر اه، ولا يخلو عن دغدغة. واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرًا إلى آخره وأخرى نظرًا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد.

.تفسير الآية رقم (12):

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}
{قُلْ} على سبيل التقريع لهم والتوبيخ {لّمَن مَّا فِي السموات والأرض} من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعًا خلقًا وملكًا وتصرفًا. وقوله سبحانه وتعالى: {قُل لِلَّهِ} تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن كما قال الإمام في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: {قُل لّمَنِ} إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عز وجل: {قُل لِلَّهِ} معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين. وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه.
{كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق أثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117، النمل: 33]، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل: هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابًا فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» وفي رواية الترمذي عنه مرفوعًا «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابًا عنده بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي» وفي رواية ابن مردويه عنه «إن الله تعالى كتب كتابًا بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي» إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقًا بالخلق وأكثر وصولًا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
وفي «شرح مسلم» للإمام النووي: «قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبًا وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها جميع المرادات، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه» انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا. وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضًا، وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: «إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة» والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام. وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة. واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر.
وقوله سبحانه: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جواب قسم محذوف وقع على ما قال أبو البقاء كتب موقعه. والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، وقيل: بياني كأنه قيل: وما تلك الرحمة فقيل: إنه تعالى ليجمعنكم إلخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط. وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس.
وقال بعض المحققين أيضًا: إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة، وقيل: صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل: إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من {الرحمة} بدل البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك والجار والمجرور قيل متعلق حذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث عنى الإرسال وهو مما يتعدى بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين، واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها؛ وقيل: هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وقيل: إنه متعلق بالفعل وإلى عنى في كما في قوله:
لا تتركني بالوعيد كأنني ** إلى الناس مطلي به القار أجرب

ومنع بعضهم مجيء إلى عنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة عنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافًا أو مبغضًا أو مكرهًا، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل: إن استعمال إلى عنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر، وارتكاب التضمين خلاف الأصل، وارتكاب القول بأن إلى عنى في وإن لم يكن مطردًا أهون منه، وقيل: إنها عنى اللام، وقيل: زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السايق، وقيل: عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصًا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها. والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعًا لا ريب فيه، وجوز أن تكون تأكيدًا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
{الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل: نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتًا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الذي جَمَعَ مَالًا} [الهمزة: 1، 2] كيف قطع فيه {الذى} مع عدم صحة اتباعه نعتًا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت، وقيل: هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضًا ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبًا بفعل مقدر أو خبرًا لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع.
واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك.
وقيل: هو مبتدأ خبره {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف «فإن قلت: كيف يكون عدم إيمانهم مسببًا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون». وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه، وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر. وقيل: الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل: فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببًا لعدم الإيمان، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} أي سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم، ويقال: الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة {وَجَعَلَ الظلمات} أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك، ويقال: الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام وقال بعضهم: الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب. ثم بعد ظهور ذلك {الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} وهو طين المادة الهيولانية {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} أي حدًا معينًا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} وهو البقاء بعد الفناء، وقيل: الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعًا بحسب الهوية وهو المسمى أجلًا طبيعيًا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية.
ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس. والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد ما علمتم ذلك {تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء {وَهُوَ الله فِي السموات وَفِى الأرض} أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} في عالم الأرواح وهو عالم الغيب {وَجَهْرَكُمْ} في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها، وقيل: المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ} الأنفسية والآفاقية {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود {وَقَالُواْ} لضعف يقينهم {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} فنراه لتزول شبهتنا {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الامر} [الأنعام: 8] أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} [الأنعام: 9] ليمكنهم مشاهدته {قُل لّمَن مَّا فِي السموات والأرض} أي ما في العالمين {قُل لِلَّهِ} إيجادًا وإفناءً {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة}. قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره: إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق، وهي المرادة في قوله تعالى: {فَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة.
وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة شفعت الملائكة وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه كما في الخبر فهي أمام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] الذي في البسملة وبين {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] الذي بعد {الحمد لله رب العالمين}
[الفاتحة: 2]. فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما، ويقول الشرع في حمد السراء: الحمد لله المنعم المتفضل، ويقول في حمد الضراء: الحمد لله على كل حال، فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله تعالى عقيب {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} {الرحمن الرحيم} فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى. وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات؛ ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص، ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه، نعم تنقسم الرحمة من بعض الحيثيات إلى قسمين، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروح اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلى الله عليه وسلم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء؛ 107] ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرًا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال.
وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق من الجمال. فقد ورد في الحديث: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي» ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال: ولا يناقض هذا قوله جل شأنه: «سبقت رحمتي غضبي» فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالًا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقًا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر.
وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار. وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة. نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} الصغرى أو الكبرى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 21] لذلك، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.