فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (19):

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}
{قُلْ أَىُّ شَيْء أَكْبَرُ شهادة} روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد أما وجد الله تعالى رسولًا غيرك ما نرى أحدًا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري بن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهًا غيره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو» فأنزل الله تعالى هذه الآية، والأول: أوفق بأول الآية والثاني: بآخرها. فأي مبتدأ و{أَكْبَرَ} خبره و{شَهَادَةً} تمييز.
والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال: شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو عنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن.
ونقل الإمام أن جهمًا أنكر صحة الإطلاق محتجًا بقوله تعالى: {وَللَّهِ الاسماء الحسنى} [الأعراف: 180] فقال: لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك، وفي «المواقف وشرحه» الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل: والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا يطلق، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول، ولو قيل: ليس بيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} بنفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى.
وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظرًا إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازًا ثم قال: وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم وعن الجهيمة أنه اسم للحادث، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدًا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى.
وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه. وقوله: إن أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء. وإنكار أهل اللغة على من يقول: الموجود ليس بشيء لكونه سلبًا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين. وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابًا وسنة فقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الكهف: 23، 24] وقال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري يقول: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ بن جبل والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفًا بعد صحة النقل عن سيبويه. ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة.
وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة بالمعدوم وليس كذلك، فإن التحقيق عندنا أن الشيء عنى المشيء العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله للمعدوم والموجود معًا في قوله تعالى: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] جمعًا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقًا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معًا حقيقة لغوية، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل عنى شاء أو مشيء فإن كان عنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه عنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز وجل كإطلاق المعلوم مثلًا، ومعنى {أَكْبَرُ شهادة} أعظم وأصدق.
{قُلِ الله} أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجواب بنفسه هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبًا. والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة، وجوز العكس. ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه عرفة، وقوله سبحانه: {شَهِيدٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} فهو ابتداء كلام، وجوز أن يكون خبر {الله} والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه: {الله} فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام جموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أولًا فليفهم.
{وَأُوحِىَ إِلَىَّ} من قبله تعالى: {هذا القرءان} العظيم الشاهد بصحة رسالتي {لاِنذِرَكُمْ بِهِ} بما فيه من الوعيد. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب للمقام، وقيل: إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر. وفي الدر المصون أن الكلام على حد {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] {وَمَن بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بلغه القرآن فكأنما شافهته» واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال: «أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا: لا فخلى سبيلهم ثم قرأ {وَأُوحِىَ إلى} الآية.
وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزمًا له خصوصًا عند القائلين بالحسن والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع، والحسن والقبح العقليان قد طوي بساط ردهما، وجوز أن يكون {مِنْ} عطفًا على الفاعل المستتر في {أنذركم} للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضًا، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولايخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن.
{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءالِهَةً أخرى} جملة مستأنفة أو مندرجة في القول، والاستفهام للتقرير أو للإنكار، وقيل: لهما، وفيه جمع بين المعاني المجازية و{أخرى} صفة لآلهة. وصفة جمع ما لا يعقل كما قال أبو حيان كصفة الواحدة المؤنثة نحو {مَأَرِبُ أخرى} [طه: 18] {وَللَّهِ الاسماء الحسنى} [الأعراف: 180] ولما كانت الآلهة حجارة وخشبًا مثلًا أجريت هذا المجرى تحقيرًا لها {قُلْ} لهم {لاَّ أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف. {قُلْ} تكرير للأمر للتأكيد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو. وما كافة. وجوز أبو البقاء وزعم أنه الأليق بما قبله كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون {واحد} خبرًا وهو خلاف الظاهر. {وَإِنَّنِي بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ} من الأصنام أو من إشراككم.

.تفسير الآية رقم (20):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}
{الذين ءاتيناهم الكتاب} جواب عما سبق في الرواية الأولى من قولهم: سألنا عنك اليهود والنصارى إلخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلزامهم بِإلى الجواب عن تحكمهم بقولهم: أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل، وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان دار ما أسند إليهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الكتابين بحليته ونعوته المذكورة فيهما، وفيه التفات. وقيل: الضمير للكتاب، واختاره أبو البقاء. والأول هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه.
{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلًا. روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام: إن الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة؟ فقال ابن سلام: نعرف نبي الله صلى الله عليه وسلم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وأيم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا حمد أشد معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه قد وفقت وصدقت. وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليته صلى الله عليه وسلم إما أن يكون باقيًا وقت نزول الآية أو لا بل محرفًا مغيرًا والأول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال؛ وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم. وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها، وبقولهم: إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} [النحل: 14] {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} من أهل الكتابين والمشركين {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بما يجب الإيمان به، وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفًا.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بادعائه أن له جل شأنه شريكًا وبقوله الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه. والاستفهام للاستعظام الادعائي. والمشهور أن المراد إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويًا له، والتركيب وإن لم يدل على إنكار المساواة وضعًا كما قال العلامة الثاني في «شرح المقاصد وحواشي الكشاف» يدل عليه استعمالًا فإذا قلت: لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف، والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبًا لاسيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانًا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة.
وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على ما هو عليه فإن الأفهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة، فإذا حكم بعض الناس مثلًا بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من يساويه بل من يقاربه أيضًا وهو المطلوب، وبالجملة إن إثبات المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل فنفي الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل.
وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه. قال ابن الصائغ في مسألة الكحل: إن ما رأيت رجلًا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصًا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده كالدابة انتهى. وأنت تعلم أن هذا مشعر باعتبار العرف أيضًا.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ} كأن كذب بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سماها سحرًا، وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلى الله عليه وسلم الذي ذكرها الله تعالى فيه، وإنما ذكر {أَوْ} وهم جمعوا بين الأمرين إيذانًا بأن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس، وقيل: نبه بكلمة {أَوْ} على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا أو يقال: إن من نفي الثابت بالبرهان يكون بنفي ما لم يثبت به أولى، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جميع بين المتناقضين من هذا الوجه.
وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب أن يكون ملكًا. ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء، وهذه التوجيهات لا ترفعه.
{أَنَّهُ} أي الشأن، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو {لاَ يُفْلِحُ} أي لا يفوز طلوب ولا ينجو من مكروه {الظالمون} من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم.