فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (22):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)}
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} منصوب على الظرفية ضمر يقدر مؤخرًا وضمير {نَحْشُرُهُمْ} للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم و{جَمِيعًا} حال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعًا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت. وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل. وقدر ماضيًا ليدل على التحقيق ويحسن عطف {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} [الأنعام: 23] إلخ عليه، وجوز نصبه على المفعولية ضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم واختاره أبو البقاء، وقيل: التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم إلخ.
{ثُمَّ نَقُولُ} للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد {لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانًا: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة و{أَيْنَ} للسؤال عن غير الحاضر، وظاهر قوله تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فأما أن يقال: إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ** فلما رأوها أقشعت وتجلت

وإما أن يقال: إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدًا ظهيرًا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد؟ فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضرًا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم؟، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر السؤال، وقوله تعالى: {وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين} إلى قوله سبحانه: {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]. وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم.
وقال شيخ الإسلام: إن هذا السؤال المنبئ عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب حسا يحكيه قوله سبحانه: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28] إلخ ونحوه اما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بابعادها من ذلك الموقف، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث ذواتها بل وإنما هو من حيث هي شركاء كما يعرب عنه الوصف بالموصول، ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصنامًا كانت أو لا. وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها فيروا مكان خريهم وحسرتهم فرا يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد.
وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ. وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة. اه.
وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها، ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه، مع أن كون هذا واقعًا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ. وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضًا مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه. وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان بسبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله: لأن عذاب البرزخ لا يقتضي إلخ ليس في مخله، وكذا قوله: فكم من معذب في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد. وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر. وقرأ يعقوب {يَحْشُرُهُمْ ثُمَّ يَقُولُ} بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى.
وقوله سبحانه للمشركين: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} إما بالواسطة أو بغير واسطة. والتكليم المنفي في قوله تعالى: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} [البقرة: 174، آل عمران: 77] إلخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم. والزعم يستعمل في الحق كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «زعم جبريل عليه السلام» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقول سيبويه في أشياء يرتضيها: زعم الخليل، ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو عنى الكذب. وكثيرًا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمونهم شركاء.

.تفسير الآية رقم (23):

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة، واختلف في المراد هنا فقيل: الشرك، واختار هذا القول الزجاح ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقًا وأبعد مغزى والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي.
وقوله تعالى: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لم يكن عاقبة شركهم شيئًا إلا تبرئهم منه، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى إنسانًا يحب غاويًا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له: ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب، وقيل: المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له. وروي ذلك عن ابن عباس أيضًا وأبي عبد الله وقتادة ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقًا للمسبب على السبب، ويحتمل أن يكون هناك إستعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضًا كالمعذرة. قيل: والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها. و{تَكُنْ} بالتاء الفوقانية، و{فِتْنَتُهُمْ} بالرفع قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة. والكسائي {يَكُنِ} بالياء التحتانية و{فِتْنَتُهُمْ} بالنصب، وكذا قرأ {رَبَّنَا} بالنصب على النداء أو المدح. وقرئ في الشواذ {رَبَّنَا} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو توطئة لنفي إشراكهم وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى. وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب {فِتْنَتُهُمْ} أيضًا، وخرجوا قراءة الأولين على أن {فِتْنَتُهُمْ} اسم {تَكُنْ} وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث و{أَن قَالُواْ} خبره. وقرأ حمزة والكسائي على أن {أَن قَالُواْ} هو الاسم ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر و{فِتْنَتُهُمْ} هو الخبر. وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرًا مذكرًا وكان الخبر مؤنثًا مقدمًا كقوله:
وقد خاب من كانت سريرته العذر

ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة، وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة، وقيل: إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي: «إن ذلك من قبيل من كانت أمك»؟ ونوقش بما لا طائل فيه، وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسمًا لأن {أَن قَالُواْ} يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في حميع الأحكام، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في {يَوْمٍ نَحْشُرُهُمْ} [الأنعام: 22] إلخ على ما مرت الإشارة إليه. وجعلها غير واحد عطفًا على الجملة قبلها. و{ثُمَّ} اما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم فيمكن أن يقال: إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما ينبئ عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان. ومما ينبئ على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم.
وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي والقاضي ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا. وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك. واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (24):

{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} أي في قولهم {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وأجابوا بأنه ليس المراد أنهم كذبوا في الآخرة بل المراد: أنظر كيف كذبوا {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في الدنيا. ورد بان الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدًا. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضًا قوله تعالص: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} [المجادة: 18] بعد قوله سبحانه: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا، ويشير إلى هذا التشبيه أيضًا الأمر بالنظر كما لا يخفى على من نظر.
وذكر ابن المنير أن في الآية دليلًا بينا على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل إخبارهم وتبرأهم كذبًا مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم، وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر. والمروي عن الحسن أن {مَا} موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] أو نحو ذلك. وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئًا، وقيل: إن {مَا} مصدرية أي ضل افترائهم كقوله سبحانه: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف: 104] أي لم ينفعهم ذلك. والجملة قيل: مستأنفة، وقيل: واختاره شيخ الإسلام إنها عطف على {كَذَّبُواْ} داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لأنظر لذلك. وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية أنظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرؤوا منه بالمرة.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)}
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} كلام مبتدأ مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرًا لما قبله وتحقيقًا لمضمونه. وضمير {مِنْهُمْ} للذين أشركوا. والاستماع عنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة، وقيل: إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبيا بن خلف استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشًا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأفرد ضمير {مِنْ} في {يَسْتَمِعِ} وجمعه في قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} نظرًا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل: هنا {يَسْتَمِعِ} وفي يونس (42): {يَسْتَمِعُونَ} لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن.
والجعل عنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظًا ومعنى لأن فعالًا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة، وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفًا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة كأكنة وأخبية إلا نادرًا. وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال: كنه وأكنه كما قاله الطبرسي وغيره وفرق بينهما الراغب فقال: أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره والتنوين للتفخيم. والواو للعطف والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية، وقيل: الواو للحال أي وقد جعلنا. و{على قُلُوبِهِمْ} متعلق بالفعل قبله. وزعم أبو حيان أنه «إن كان عنى ألقى فالظرف متعلق به وإن كان عنى صير فمتعلق حذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني». والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها.
{أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه وكذلك يفعلون في أمثاله، وجوز أن يكون مفعولًا به لما دل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه {أَكِنَّةً} وحده من ذلك {وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا} أي صممًا وثقلًا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه.
والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبوة قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره.
وقرأ طلحة {وِقْرًا} بالكسر وهو على ما نص عليه الزجاج حمل البغل ونحوه، ونصبه على القراءتين بالعطف على {أَكِنَّةً} كما قال أبو البقاء.
{وَإِن يَرَوْاْ} أي يشاهدوا ويبصروا {كُلُّ ءايَةٍ} أي معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم. والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم، ونقل عن بعضهم أنه لابد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعًا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} [الشعراء: 4]. واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية «ا كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئًا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به»، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم.
{حتى إِذَا جَاءوكَ يجادلونك} أي يخاصمونك وينازعونك. و{حتى} هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها: حتى الابتدائية ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافًا للزجاج وابن درستويه زعمًا أنها في محل جر بحتى. ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى: {إِذَا جَاءوكَ} مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى: {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وما بينهما حال من فاعل جاؤوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذمًا لهم بما في حيز الصلة وإشعارًا بعلة الحكم. و{إِذَا} منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك، واعترض بأن جعل {يجادلونك} في موضع الحال و{يَقُولُ الذين} جوابًا مفض إلى جعل الكلام لغوًا لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها.
ولا يخفى ما فيه، فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقى صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون عنى الفاء وأن تكون عنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم الإيمان بما سمعوا من الآيات الكريمة بل يقولون: {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ أساطير الاولين} أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها، وقال قتادة: كذبهم وباطلهم. وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه. ونظير ذلك مات الناس حتى الأنبياء وجوز أن تكون {حتى} هي الجارة و{إِذَا جَاءوكَ} في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضًا فلا جواب لها فيقول حينئذ: تفسير ليجادلونك وهو في موضع الحال أيضًا، والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير، وقال بعضهم: له مفرد. وفي القاموس «إنه جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأُسطور وبالهاء في الكل»، وقيل: جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع. وأصل السطر عنى الخط.