فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (33):

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)}
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة، وكلمة قد للتكثير وهو كما قال الحلبي رادًا به اعتراض أبي حيان راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى، وقال السفاقسي: قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناءً على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي:
قد أترك القِرْن مصفرًا أنامله ** كأن أثوابه مُجَّت بفِرْصَاد

وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم، وكلام سيبويه حيث قال: وتكون قد نزلة را ليس نصًا في ذلك؛ وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به. وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها نزلة را يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان.
وقول أبي حيان أن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرًا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرًا لم يكن قرنًا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي. وفي القاموس القِرن بالكسر كفؤك في الشجاعة أو أعم، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلًا وإلا لم يكن قرنًا ويتناقض أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل، وقد يراد به في بعض المواضع ضده، وهو من باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتكذيبهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلًا وأن يكون تهكمًا بالمكذبين وتوبيخًا لهم. ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى، وضمير {أَنَّهُ} للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله، وهو ما حكي عنهم من قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} [الأنعام: 25] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة {أَنَّهُ} إلخ سادة مسد مفعولي {نَعْلَمَ}.
وقرأ نافع {لَيَحْزُنُكَ} من أحزن المنقول من حزن اللازم.
وقوله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] إيذانًا بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل. وفيه أيضًا استعظام لجنايتهم منبئ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة.
{ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه، وقيل: إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وإنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو {ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} [البقرة: 54] فيكون المبتدأ مشيرًا إلى وجه بناء الخبر كقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعز وأطول

وقيل: إن أل في {الظالمين} إن كانت موصولة واسم الفاعل عنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل عنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد ولا يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظامًا لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفي ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه. والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب، وقيل: إنه إنما يتعدى بنفسه والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيًا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل: إنها تعليل لقوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ} إلخ بناءً على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل فكأنه قيل: لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه وسلم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال: كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقًا فأنزل الله تعالى الآية، وقيل: المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة. واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلى الله عليه وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقًا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدًا بل إن كان صادقًا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدًا فلابد أن يكون كاذبًا فيه، وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق؛ وقال الطيبي: مرادهم إنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل: معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل: المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظالمين من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل: غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل.
وقرأ نافع والكسائي والأعمش عن أبي بكر {لاَ يُكَذّبُونَكَ} من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، ورويت أيضًا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور: كلاهما عنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل؛ وقيل: معنى أكذبته وجدته كاذبًا كأحمدته عنى وجدته محمودًا، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول. كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تسلية إثر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عموم البلوى را يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية ثل ما منحوه من النصر، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية، وتنوين {رُسُلُ} للتفخيم والتكثير، ومن متعلقة بكذبت، وجوز أن تتعلق حذوف وقع صفة لرسل، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان، وفيه منع ظاهر، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك.
{فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} ما مصدرية وقوله: {وَأُوذُواْ} عطف على {كَذَّبُواْ} داخل في حكمه، ومصدر كذب التكذيب، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره، وقول صاحب القاموس: ولا تقل إيذاء خطأ، والذي غرَّه ترك الجوهري وغيره له، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبًا، وفيه تأكيد للتسلية، وجوز العطف على {كَذَّبَتْ} أو على {صَبَرُواْ} وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافًا ثم رجح الأول.
وقوله سبحانه: {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غاية للصبر، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين، وجوز أن يكون غاية للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر.
{وَلا مُبَدِّلَ لكلَمَات الله} تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى كما قال الكلبي وقتادة الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا كقوله تعالى: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله عز شأنه: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 172، 173] وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًا، والالتفات إلى الاسم الجليل كما قيل للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال، وظاهر الآية أن أحدًا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز وجل عنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه را يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد.
{وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم، والنبأ كالقصص لفظًا ومعنى. وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفًا في ذلك لسيبويه فاعل جاء، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان، والجار متعلق حذوف وقع حالًا منه، وقيل وإليه يشير كلام الرماني إنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا، وقال أبو حيان: الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه. وقيل ورا يشعر به كلام الكشاف: إن من هي الفاعل، والمراد بعض أنبائهم.