فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (39):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}
{والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولًا أوليًا، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] إلخ أو الأعم من أولئك، والكلام متعلق بقوله سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا} [الأنعام: 38] إلخ أو بقوله جل شأنه {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره {صُمٌّ وَبُكْمٌ} وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى، وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعًا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون.
وقوله سبحانه: {فِى الظلمات} أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع {عمي} كما في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} [البقرة: 18، 171] ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق، واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق حذوف وقع حالًا من المستكن في الخبر كأنه قيل: ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذٍ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات؛ وأن يكون صفة لبكم أو ظرفًا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابًا لهم على كفرهم في الدنيا. والكلام عليه متعلق بقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلًا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول {يشأ} محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من مفعولًا مقدمًا له لفساد المعنى، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده، وجوز بعضهم أن يكون {مِنْ} في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله.
{وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} عطف على ما تقدم، والكلام فيه كالكلام فيه، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد.
والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال: معنى {يُضْلِلْهُ} يخذله ولم يلطف به و{يَجْعَلُهُ} إلخ يلطف به، وقال غيره: المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى. وكان الظاهر على ما قيل: أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض. ولهذا قيل في تفسير {يَجْعَلُهُ} إلخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه.

.تفسير الآية رقم (40):

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)}
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد وليس اسمًا لأنه لو كان كذلك لكان إما مجرورًا ولا جار هنا أو مرفوعًا وليس من ضمائر الرفع ولا مقتضى له أيضًا أو منصوبًا وهو باطل لثلاثة أوجه، الأول: أن هذا الفعل قلبي عنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك: أرأيت زيدًا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولًا لكان ثالثًا. والثاني: أنه لو جعل مفعولًا لكان هو الفاعل في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت: أرأيتك زيدًا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتكن وهذا مذهب البصريين.
والمفعولان في هذه الآية قيل: الأول: منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه: {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي الدنيوي حسا أتى من قبلكم {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} أي هو لها كما يدل عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو {عَذَابُ الله} و{الساعة} فأعمل الثاني وأضمر في الأول. والثاني: منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك. وقيل: لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم، وقيل: إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين.
وذهب الرضي تبعًا لغيره أن رأى هنا بصرية وقيل: قلبية عنى عرف. وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء. وفيه على ما قال الكرماني وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له. وجعل الاستفهام عنى الأمر بجامع الطلب. وقول بعضهم: إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك عنى أخبرني لما قيل أنه بالنظر إلى أصل الكلام.
ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال: إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان عنى أخبرت وإذا كان عنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضًا الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدًا أراني زيد عمرًا ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم، وأخرجته أيضًا عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} [الكهف: 63] الآية. فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أما. والمعنى أما إذ أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا. وقد أخرجته أيضًا إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كان بهذا المعنى فلابد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام. وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه ولم يوافق في جميع ذلك.
وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول. وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع. والكلام على ذلك مبسوط في محله. والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى. {أَغَيْرَ الله} إلخ.
وقوله سبحانه: {إِن كُنتُمْ صادقين} متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، والتقدير على ما قيل إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة أو أن عبادتكم لها نافعة أو إن كنتم قومًا من شأنكم الصدق فأخبروني أإلهًا غير الله تعالى تدعون إن أتاكم عذاب الله إلخ فإن صدقهم من موجبات إخبارهم بدعائهم غيره سبحانه. وقيل: إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله، واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند ءتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه، وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفًا تقديره أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، وجعلوا قوله سبحانه: {أَغَيْرَ الله} إلخ استئنافًا للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص. وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص.

.تفسير الآية رقم (41):

{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)}
نعم التقديم في قوله تعالى: {بَلْ إياه تَدْعُونَ} للتخصيص أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل، والتخصيص مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا غير الله تدعون بل إياه تدعون، وجعله في الكشف عطفًا على {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} [الأنعام: 4] وأورد الزمخشري على كون {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي ما تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى: {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} [الأنعام: 40] يأباه فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وأجاب بأنه قد اشترط في الكشف المشيئة بقوله جل شأنه: {إِن شَاء} وهو عز وجل لا يشاء كشف هاتيك الفوارع عنهم، وخص الايراد بذلك الوجه على ما في الكشف لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه: {أَغَيْرَ} [الأنعام: 40] إلخ وكان {بَلْ إياه} إلخ عطفًا عليه ضرابًا عنه والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضًا. ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفادًا عنه وجب أن يكونا متعلقين به أيضًا فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف. وأما في الوجه الآخر فلأن {أَغَيْرَ} إلخ لما كان كلامًا مستقلًا لم يتعلق به الشرطان لفظًا بل جاز أن يقدرا أو هو الظاهر إن ساعد المعنى، وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء المقام وذلك أنه سبحانه بكتهم بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا ترى إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} [النحل: 53] فلا مانع من ذكر أمرين والتقريع على أحدهما دون الآخر لاسيما عند اختصاصه بالتقريع انتهى. ورا يقال: إن كشف القوارع الدنيوية والأخروية بدعاء المؤمن أو المشرك بل قبول الدعاء مطلقًا مشروط بالمشيئة وبذلك تقيد آية {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] لكن انتفاء المشيئة متحقق في بعض الصور كما في قبول دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما يلقونه من سوء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب طول الوقوف حين يشفع صلى الله عليه وسلم فيشفع في الفصل بين الخلائق يومئذٍ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء.
على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما يلاقونه بعد وإن لم يعلموا ذلك قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك اليوم لا تفارقهم أصلًا وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد، فقول بعضهم إثر قول الزمخشري: فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الأحسن عندي أن هول القيامة يكشف أيضًا ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث الشفاعة العظمى إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة وقد غفل عن هذا من اتبعه كلام خال عن التحقيق، والمعتزلة على ما في «مجمع البحار» لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار.
هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره فمن تدعون، وقيل: وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى، وقيل: إنه مذكور وهو أرأيتكم، وقيل: ونسب للرضي هو الجملة المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال، ورده الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جوابًا للشرط بدون فاء. وبحث في ذلك الشهاب في «حواشيه على شرح الكافية» للرضي. وقال أبو حيان وتبعه غير واحد: الذي أذهب إليه أن يكون الجواب محذوفًا لدلالة {أَرَأَيْتُكُم} [الأنعام: 40] عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله تعالى فأخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول: أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به فإن التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه. ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى فافهم ولا تغفل.
وقوله تعالى: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} عطف على {تَدْعُونَ} والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركًا كليًا، وقيل: يحتمل أن يكون على حقيقته فإنهم لشدة الهول ينسون ذلك حقيقة، ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذٍ أن ينسى الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى ما سواه سبحانه، وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن الدعاء لإظهار كمال العناية بشأنه والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة.