فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (53):

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
{وكذلك فَتَنَّا} أي ابتلينا واختبرنا {بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} والمراد عاملناهم معاملة المختبر وذلك إشارة إلى الفتن المذكور في النظم الكريم، وعبر عنه بذلك إيذانًا بتفخيمه كقولك: ضربت ذلك الضرب. والكاف مقحمة عنى أن التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم. والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا، ويؤول إلى أن هذا الأمر العظيم متحقق منا. ومن ظنَّ أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه. وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، وقيل: المراد مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم، ولا يخفى أن الأول أدق نظرًا وأعلى كعبًا وقد سلف بعض الكلام على ذلك.
{لّيَقُولواْ} أي البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم} بأن وفقهم لإصابة الحق والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه: {مّن بَيْنِنَا} أي من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن رأسًا على حد قولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] لا تحقير الممنون عليهم مع الإعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه سبحانه، وذكر الإمام أنه سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كلًا من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الإسلام متسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى: {الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ} [القمر: 25]. و{لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا بقينا في الشدة والضيق والقلة... وأما المحققون المحقون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول المعتزلة. انتهى. وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار معترفون بوقوع المن للمشار إليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو مناف لتنظيره بقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا} إلخ.
وأيضًا كلامه كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأيضًا مقابلة فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر.
واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له. والسلف كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي وغيرهما على إثبات العلة لأفعاله تعالى استدلالًا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك. واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في «المحتبر»، وذكر الأول في «مسلك السداد» ما يعلم منه ردها، وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه، وقال غير واحد: هي لام العاقبة، ونقل عن شرح المقاصد ما يأتي ذلك وهو أن لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيهًا على خطئه ولا يتصور هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وإن وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره سبحانه كقوله عز وجل: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] إذ ترتب فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام، نعم إن ابن هشام وكثيرًا من النحاة لم يعتبروا هذا القيد، وقالوا: إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقًا فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه، ومن الناس من قال: إنها للتعليل مقابلًا به احتمال العاقبة على أن {فَتَنَّا} متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من إطلاق المسبب على السبب.
واعترض بأن التعليل هنا ليس عناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازًا عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة. وأجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة، واعترض بأن العاقبة أيضًا استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر، وقد يقال في الفرق إن في التعليل المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال: إن أفعال الله تعالى لا تعلل، وحينئذ يصح أن يقال: إن اللام على تقدير تضمين {فَتَنَّا} معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازًا لأن هناك تسببًا واقتضاء فقط من دون بعث، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضًا لكن ليس فيه إلا التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلًا.
والحاصل أن كلًا من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق، والبحث بعد محتاج إلى تأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه.
{أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} رد لقولهم ذلك وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الإنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم. والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك، والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة باعلم ويكفي أفعل العمل في مثله. وفي الدر المصون يتعدى بالباء لتضمنه معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به، والمعنى أليس الله تعالى عالمًا على أتم وجه محيطًا علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا إنعامه عز وجل عليهم، وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال عزل عن ذلك كله ما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}
{وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلى الله عليه وسلم عن طردهم، والمراد بالآيات القرآنية أو الحجج مطلقًا، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به سبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فيما سبق هو المداومة على العبادة، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك أيضًا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر. وأخرج عبد بن حميد ومسدد في مسنده وابن جرير وآخرون عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئًا فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم. وروي عن أنس مثل ذلك، وقيل: لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان.
{فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكرامًا لهم بخصوصهم كما روى عن عكرمة واختاره الجبائي، وقيل: أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن المعنى إقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه. وعليه لا يكون السلام عنى التحية. وهو أيضًا مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضًا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمرًا له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم.
وقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلًا وإحسانًا بالذات لا بتوسط شيء ما أصلًا وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى. ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضًا قيل لأنها دعائية إنشائية، وقيل: إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم. وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب.
وقوله تعالى: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا} بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بدل من {الرحمة} كما قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل: إنه مفعول {كتاب} و{الرحمة} مفعول له، وقيل: إنه على تقدير اللام، وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه إلخ ودل على ذلك ما قبله. وقرأ الباقون {أَنَّهُ} بالكسر على الاستئناف النحوي أو البياني كأنه قيل: وما هذه الرحمة؟ والضمير للشأن. ومن موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ و{مّنكُمْ} في موضع الحال من ضمير الفاعل. وقوله سبحانه: {بِجَهَالَةٍ} حال أيضًا على الأظهر أي من عمل ذنبًا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل {ثُمَّ تَابَ} عن ذلك {مِن بَعْدِهِ} أي العمل أو السوء {وَأَصْلَحَ} أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدًا.
{فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له. فأن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة خبر {مِنْ} أو جواب الشرط، والخبر حينئذ على الخلاف، وقدر بعضهم فله أنه إلخ أو فعليه أنه إلخ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية، وقيل: إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه إلخ، وقيل: إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد وقيل: بدل منه، قال أبو البقاء: وكلاهما ضعيف لوجهين الأول: أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف، والثاني: أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها، والتزام الحذف بعيد، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر. وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج والزهري وأبي عمرو الداني، ولم يطلع على ما قيل أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال: إنه محتمل إعرابي وإن لم يقرأ به، وليس كما قال.
ومن الناس من قال: إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر، ولذا قيل: إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذرًا: ما أردت إلا خيرًا.
وأورد عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال. وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عامًا وخطاب {مّنكُمْ} لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال. وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة كان إذ للخصم أن يقول: لا نسلم تلك الرواية. فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية. ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به. فحينئذ يمكن أن يقال: إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلًا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهم فإنه دقيق.